مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديقال الكلبي: نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله( ص ) منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ،كانوا يلقون من المشركين أذىً كثيراً ويقولون: يا رسول الله ،ائذن لنا في قتال هؤلاء ،فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم ،فإني لم أؤمر بقتالهم ،فلما هاجر رسول الله1( ص ) إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين ،كرهه بعضهم وشقّ عليهم ،فأنزل الله تعالى هذه الآية .
من صور المتخاذلين
ولعل جو الآية يوحي بمثل هذا الجو الذي تتحدث عنه القصة ،لأن القرآن يتحدث عن بعض الأوضاع القلقة التي كان يعيش فيها المجتمع المؤمن في مواجهته لتحديات الكفر ،وذلك كأسلوب قرآني تربوي يعلّمنا أن لا نؤكد دائماً على الجوانب الإيجابية في مجتمعنا ،فنتحدث عن نقاط القوة فيه والجوانب المشرقة في داخله ،بل لا بد لنا من التأكيد أيضاً على الجوانب السلبية ،فنتحدث عن نقاط الضعف والجوانب المظلمة في داخله ،لأن ذلك هو السبيل الوحيد لوضوح الرؤية وسلامة المسيرة ،عندما يتطلع العاملون إلى المجتمع ،كما هو في طبيعته الواقعية ،فيعرفون كيف يتصرفون بطريقةٍ عمليّة ،من خلال نقاط الضعف والقوة معاً ،ليخططوا للعمل على هذا الأساس .أما إذا انطلقنا في إثارة الموضوع أمام أنفسنا وإخواننا من جانب واحدإيجابياً كان أو سلبياًوألغينا الجانب الآخر ،فسيترك ذلك تأثيراً على سلامة الخط ويعرّض المسيرة للارتباك أو الانهيار .
وهذا ما أكّد عليه القرآن في أكثر من آية ؛ومن ذلك ما حدّثنا الله به عن هؤلاء المؤمنين الطيبين الذين التقوا بالدعوة الإسلامية في بدايتها ،فآمنوا بها من خلال الإيمان بالله ،وشعروا بالقوة الروحية التي تمنحهم شجاعة الموقف وقوّة التحدي والمواجهة ،ففكروا باندفاع وانفعال ،تماماً كما يفكر الإنسان في خوض المعركة الشخصية دون أن يحسب حساباً للساحة ،لأن هناك حالةً نفسية معقّدة متوترة تدفعه إلى المواجهة الحادّة ،وتوحي له بأن التراجع يمثل الذلّ والانهزامية وغير ذلك من المشاعر الخاصة ،ولا تترك له مجالاً ليدرس الموقف من خلال النتائج المحتملة ،بما يتطلبه ذلك من استعداد عمليّ ،ومن دراسة للعناصر المقابلة المعادية وطريقة عملها ،ليحدّد ما هو المصلحة لما يؤمن به من قيم ذاتيةٍ أو عامةٍ ،فقد يقع الإنسان في قبضة الذل من خلال حركة انفعاليةٍ اندفاعية ،أكثر مما يعانيه من ذلك فيما لو سيطر على مشاعره ،وتحمّل بعض انفعالات الموقف ،وخطط لربح المعركة في نهاية المطاف ...
بمثل هذه الحالة الانفعالية وقف هؤلاء المؤمنون الطيبون الذين كانوا يعانون من اضطهاد المشركين ،حتى أنهم قالوا لرسول الله( ص )كما ذكرت بعض الروايات: يا نبي الله ،كنا في عزّ ونحن مشركون ،فلما آمنّا صرنا أذلة[ 2] .فواجهوا الموقف بانفعال ،تماماً كأية حالة ذاتية سريعة ،ولم يفكروا أن الموقف هو موقف الدعوة والحاجة إلى تخطيط العمل على أساس المراحل ،فقد تكون بحاجة إلى أن يعيش أفرادها روح الاستشهاد والتضحية والثبات ،ليعمّقوا تأثير الدعوة في نفوس المجتمع الذي يضطهدهم بشكل غير مباشر ،وليأخذوا لأنفسهم الوقت الملائم لإيصال الدعوة إلى كل قلب في الجزيرة العربية من خلال الموقع المميز لمكّة ،وذلك بالابتعاد عن الصدمات اليومية التي قد تضيَّق عليهم الخناق وتمنعهم من حرية الحركة ،فربما كان من مصلحة الدعوة أن لا ينتبه المشركون إلى القوة الذاتية التي تملكها ،من خلال ما يملكه أفرادها المؤمنون من القوة ،وربما كانت القوة التي يملكونها لا تستطيع مواجهة القوة التي يملكها المشركون ،مما قد يدفع بالموقف إلى هزيمة لا تتحملها الدعوة الجديدة .
ولهذا لم يؤمر النبي بالقتال طيلة عهد ما قبل الهجرة ،وذلك من أجل تحضير الأجواء لانتشار الدعوة من جهة على أيدي مؤيديها ومعارضيها ،ومن أجل إعداد المجتمع الجديد الذي ينطلق من قاعدة ثابتةٍ صلبة خارج نطاق مكة ،كما حدث في المدينة ،فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة ؛وكانت مواقف الصمود والاستشهاد من قبل الذين لم يهاجروا ،حتى أذن الله بالقتال .ووقف هؤلاء المؤمنون الذين قال لهم الله من خلال النبي( ص ):{كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ} ،فذلك ما ينبغي لكم القيام به ،على أساس ما تقتضيه المصلحة الإسلامية في هذه المرحلة لأن إقامة الصلاة تمثل انفتاح الإنسان على الله للحصول على القرب منه ،من حيث هي معراج روح المؤمن إلى الله ،فذلك هو الذي ينمي في داخله القيم الروحية والمعاني الإنسانية ،كما أن الزكاة بمعناها الواسع ،وهو العطاء ،تمثل انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر المحروم في حاجاته الخاصة والعامة لمساعدته على تجاوز حالة الحرمان التي يعانيها ؛الأمر الذي ينمي إنسانيته في علاقته بالآخر من خلال علاقته بالله ،فذلك هو الذي يقدّم الإنسان المسلم إلى العالم من موقعه الروحي والإنساني ،مما يترك تأثيره الإيجابي على استجابة الناس للإسلام باعتباره الدين الذي يبلور للإنسان إنسانيته ويحوّله من إنسان مستغرقٍ في ذاته إلى إنسانٍ منفتحٍ على الآخرين والعالم كله من موقع المسؤولية العامة عن الإنسان والحياة ،على أساس أن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله .
وقد نستوحي من هذا الخط الفاصل بين تكليف المسلمين في مكة وتكليفهم في المدينة أن مكة كانت ساحة الإعداد والتعبئة الروحية والثقافية والاستقامة في العمل من أجل صنع الطليعة الواعية القائدة لحركة الصراع تحت قيادة النبي محمد( ص ) ،أما المدينة ،فهي ساحة الصراع التي تتحدى وتواجه التحدي من خلال قوة المسلمين الجديدة التي تريد أن تكون رقماً صعباً في موازين القوة ،وهذا ما يفسر الخطوط العملية الفارقة بين الموقعين .
ولم يرتح المسلمون إلى ذلك .ومرّت الأيام ،وجاءت التجربة الإسلامية الجديدة في المرحلة الثانية الصعبة ،وهي مرحلة المواجهة للكفر بأسلوب التحدي والقوة .وفرض الله القتال على المسلمين .وكان هؤلاء ممن كتب عليهم القتال ،ووجهت إليهم الدعوة ،فماذا كان موقفهم ؟{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} إن القرآن يحدثنا عن لحظات الضعف التي عاشوها إزاء هذه الدعوة ،فقد واجهتهم حقيقة الخصائص الذاتية الكامنة في نفوسهم ،فهم لا يعيشون القوة الروحية في المستوى الذي يجعلهم أقوياء في مواجهة التحدي ،فلم تكن مواقفهم الأولى منطلقة من قاعدة صلبة في داخل ذواتهم ،بل كانت منطلقة من حالة انفعالية طارئة بعيدة عن دراسة الموقف وحسابات الساحة .وهكذا بدأوا يواجهون حقيقة أنفسهم ،فها هم ينهارون أمام حالة الرعب من قوة الأعداء فلا يستطيعون التماسك أمامها .وهذا ما صوره القرآن لنا بهذه الصورة المعبرة:{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فهم يخافون من الناس ،كما يخافون من الله ،أو أكثر من ذلك ،ولهذا واجهوا الموقف بعدم الاستجابة للدعوة إلى القتال ،خوفاً من عذاب الناس ،في ما يمكن أن تسفر عنه المعركة من جراحة أو قتل .
وقد دفعهم هذا الخوف إلى موقف ضعف مدمّر ،عبروا به عن ضعف إيمانهم ،في ابتهالهم إلى الله ،في لهجة توحي بالعتاب أكثر مما توحي بالخشوع:{وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ...} إن القتال يدفعنا إلى أن نفقد حياتنا في المعركة ،ولكننا نحب الحياة ونريدها أن تستمر إلى الأجل المحتوم الطبيعي الذي جعلته لكل إنسان يعيش ويموت حتف أنفه ،ولكن الله يريد أن يوقظ في أعماقهم روح الإيمان ومعناه وامتداده ،ويفلسف لهم قصة الموت والحياة في نفس المؤمن ووعيه ...{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} إن الإيمان يمثل انفتاح الإنسان على الله بكل كيانه ،فيحب ما أحبه الله ،ويكره ما كرهه الله ،ويختار ما أراده الله ،ويجعل الحياة كلها رحلة في طريق الله ،وعلى هذا فإن المؤمن يختار الموت في سبيل الله إذا اختار الله له ذلك ،ويحب الحياة من أجل الله إذا اختار الله له ذلك .