وإذا كانت هذه الآية ترجع الأمور كلها إلى الله ،باعتبار أنه مصدر كل شيء ،فإن الآية الأخيرة تنسب الحسنة إلى الله ،والسيئة إلى الإنسان وذلك قوله تعالى:{ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك} ،ولعل القضية ترجع إلى اختلاف الحيثية ؛فقد كانت الآية الأولى واردة في مورد الرد على الذين يتطيرون بالرسول ،فينسبون التأثيرات السيئة إليه ،فكان المناسب أن تعالج الفكرة على أساس أن العباد لا يملكون التأثير في مجريات الأمور ،لأن الله هو مصدر كل شيء ،فلا يملك أحد تبديل أيِّ شيء وتغييره إلا بإذنه ؛أما الآية الثانية ،فقد وردت في مورد الحديث عن تأثير أفعال العباد في حدوث كثير من المشاكل والأزمات والالام ،باعتبار علاقة المقدمات بالنتائج ،وذلك لما أودعه الله من قانون السببية في الكون ؛وبذلك أمكن نسبة السيئة إلى الإنسان ،وهي التعبير عن مظاهر المشاكل والآلام في حياة الإنسان .أما الحسنة ،فإنها إذا كانت تصدر من الإنسان بشكل مباشر ،فإن نسبتها إلى الله أكثر ،باعتبار ما أعدّه الله من مقدمات ،وما وجّه إليه من أعمال ،حتى أن إرادة الإنسان الخيّرة قد تحركت بفعل التوجيه الإلهي ،بينما الأمر في السيئة على العكس ،لأن التوجيه كان متعلقاً برفض السير في هذا الاتجاه .وقد تحدث القرآن في أكثر من آية عن هذا الموضوع ،كما في قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ...} [ الروم:41] ،فلم يبق هناك أي تناف بين مفاد الآيتين ،من خلال اختلاف طبيعة الجهة التي تدعو إلى اختلاف النسبة ؛والله العالم .
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ربما كانت هذه الفقرة تأكيداً للفكرة التي ترفض علاقة الرسول بالأحداث التي تحدث للناس من بلايا وآلام ،لأن مهمته تحدد بإبلاغ الرسالة للناس ،من دون أن تترك في حياة الناس أي شيء في أمورهم الحياتية من ناحية تكوينية ؛والله العالم .