عدم الاختلاف في القرآن دليل على صدوره من الله تعالى
وهذا دليل على أن القرآن من عند الله وليس من كلام البشر ،لأن غير الله يخضع في كلامه لحالات مختلفة ،في حياته المادية والمعنوية ؛وقد يترك ذلك اختلافاً كثيراً في ما يصدر عنه ،فقد يكون له في هذا اليوم فكر يختلف عن فكره في اليوم الآخر ،وقد يكون له موقف في بعض الحالات الطارئة يختلف عن الموقف في حالة أخرى… أما الله سبحانه فإنه الذي يحيط بالأشياء من جميع جوانبها ،فلا يختلف أمره في حال عن حال ،ولا تشتبه عليه الأمور ،لأنه خالق كل شيء ،{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [ الملك:14] ،ولذلك فلا يمكن لكلامه أن يكون موضعاً للاختلاف والتنافر والتنافي ،بل هو الذي يصدق بعضه بعضاً ،ويفسّر بعضه بعضاً ،ويبين أوله آخره ،وآخره أوله ،وبهذا ينبغي لنا أن ندرس القرآن ونتدبّره ،فنلاحظ أنه نزل في حالات متباينة وأوضاع مختلفة ،في السفر والحضر والسلم والحرب ...وتعرّض لأكثر من موضوع وقضية ،بل ربما يتحدث عن القضية الواحدة أكثر من مرة ،في أكثر من مناسبة .
وامتدت عملية التنزيل إلى مدى ثلاث وعشرين سنة ،هي عمر النبي الرسالي ،فلم تختلف فيه آية عن أخرى ،ولا مفهوم عن آخر ،مما يدلنا أنه كلام الله الواحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .ولكن لا بد من التدبر فيه والتعمق في مداليله ،لئلا يتوهم القارىء الاختلاف في ما ليس فيه اختلاف ،كما يحدث للإنسان الذي يقرأ بعض الآيات التي ظاهرها الجبر ،في مقابل بعض الآيات التي يظهر منها حرية الاختيار ؛أو الذي يقرأ الآيات التي يستفاد من ظاهرها التجسيم ،بإزاء الآيات التي يظهر منها عدمه ...وهكذا في ما اختلفت فيه أساليب التعبير ؛فقد يطلق اللفظ الظاهر في معنى بحسب أصل الوضع ،ويراد منه المعنى الآخر على سبيل الكناية والمجاز بسبب بعض القرائن الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي ،فيخيل للقارىء الساذج غير المتدبّر أن المراد به المعنى الحقيقي ،وذلك كما في الآيات التي تتحدث عن وجه الله ويده ،التي هي كناية عن ذاته وقدرته أو نعمته ،فيتوهم البعض أنها تعبير عن العضو الجسدي الخاص ،فيذهب إلى التجسيم ؛ونحو ذلك مما سنتعرض له في موضعه من التفسير ،لأن للفظ العربي قواعد معينة مضبوطة في طريقته في التعبير عن المعنى ،فلا يجوز إغفالها في ما نريده من فهم الكلام القرآني ،لئلا نقع في الخطأ الناشىء عن عدم التدبر .
وقد يكون من المناسب أن نذكر ما حدث للفيلسوف إسحاق الكنديفيلسوف العراقالذي قيل إنه كتب كتاباً في إثبات تناقض القرآن في آياته ،وشغل نفسه به ،وتفرد به في منزله ؛وعرف الإمام الحسن بن علي العسكريالإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة الإمامية الاثني عشربذلك ،وإن بعض تلامذته دخل على الإمام العسكري( ع ) ،فقال له: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟فقال التلميذ: نحن من تلامذته ،كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا وفي غيره ؟فقال له أبو محمدوهي كنية الإمام العسكري( ع ): أتؤدي إليه ما ألقيه إليك ؟قال: نعم .قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ؛فإذا وقعت الأنسة في ذلك ،فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها ،فإنه يستدعي منك ذلك ،فقل له: إن هذا المتكلم بهذا القرآن ،هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به غير المعاني التي قد ظننت أنك ذهبت إليها ؛فإنه سيقول لك: إنه من الجائز ،لأنه رجل يفهم ،فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه ،فتكون واضعاً لغير معانيه ؟فصار الرجل إلى الكندي ،وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة ،فقال له: أعد عليّ .ففكر في نفسه ،ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر ،فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك هذا .فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك .فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة ،فعرّفني من أين لك هذا .فقال: أمرني به أبو محمد .فقال: الان جئت به ،وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت .ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه .
وفي ضوء ذلك ،لا بد للإنسان الواعي من التدقيق في كل الأبحاث المنحرفة التي تحاول أن تؤكد على وجود التنافي بين آيات القرآن ،ليعرفمن خلال التدقيقأن تلك الأبحاث لم ترتكز على أساس دقيق من قواعد اللغة ،وحركة العقل السليم .