وأمَّا التعقيب بقوله:{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} فلا يصلح حجّة على الموضوع ،إذ من الممكن أن يكونوا قد كفروا بها{ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} لأنَّها لم تنسجم مع تصوراتهم عن طبيعة تلك الأمور المتعلِّقة بالكون وبالحياة .وإذا توقفنا عند كلمة:{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} فإنَّنا نفهم منها إهمالها ،لا العفو بمعنى عدم التكليف ،وذلك على سبيل الكفاية ،في ما يُمثِّل العفو من إسقاطٍ للذنب حتَّى كأنَّه لم يكن .والله العالم .
وربَّما كان من سلبيات الرأي الَّذي يُفسر الآية بما ذكر من الأسئلة في نطاق خصوصيات التشريع ،أنَّ المضمون يبقى في نطاق القضيّة التاريخيّة الّتي يتحدث فيها القرآن عن حادثةٍ تاريخيّةٍ ،بينما يتحول المضمون في النطاق الشامل إلى فكرةٍ عامةٍ تتحرك في الحياة ،كما يتحرك الليل والنهار في مجرى الزمن ،وبذلك يكون أقرب إلى جوّ القرآن المضموني .ولكن قد يبدو للناظر المتأمل ،أنَّ من الممكن الاستفادة في حركة الواقع من الرأي الأول ،في ما يأخذه الإنسان من فتوى عامةٍ وأحكامٍ مطلقةٍ ،لم يتعرض المجتهد للتخصيص في الأولى ،ولا للتقييد في الثانية ،أو في ما يوجه إلى العاملين من تعليمات في حقل العمل الإسلامي في الدعوة والجهاد ،فلا يتعقّد العاملون والمكلفون أمام حالات الشك ،في التقييد والتخصيص من دون أساس لفظي ،بل يسيرون في مسؤولياتهم على أساس ما يفهمونه من اللفظ ،لأنَّ ذلك هو الَّذي يملكون فيه الحجّة في مجال المسؤوليّة ،وتبقى للقضايا الأخرى مجالات الاستيحاء للانطلاق بها إلى الآفاق الشاملة .
وهكذا تكون الآية سائرة على طبيعة المنهج الإسلامي في تربية الشخصيّة المسلمة على أساسٍ من الجدية العمليّة في حركة المعرفة في الحياة ،فلا تنطلق في اهتمامها إلاَّ بالنافع المفيد لها وللنَّاس ،ولا تُثير علامات الاستفهام إلاَّ في ما أُبهم عليها أمره ،مما لا بُدَّ من معرفته ،لعلاقته بالمسؤوليّة على مستوى النظرية والتطبيق .
وقد واجهت الآية الجانب السلبي من المنهج ،بالتأكيد على نقطتين في ما يمكن أن يحصل من ردود الفعل:
أولاً: الاستيحاء من نتائج الجواب عن السؤال لما يتضمنه من مشاكل وآلام ومضايقات نفسيّة .
ثانياً: التمرّد على تلك النتائج والكفر بها لعدم موافقتها للفكر الذاتي ،وللمزاج وللعادات ،كما فعلها قوم آخرون .
وربَّما كانت هاتان النقطتان لا تُمثِّلان مشكلةً في ما يحتاج الإنسان إلى معرفته ،كما في الكثير من حقائق الإسلام في العقيدة والتشريع ،مما لا يريح النَّاس في أفكارهم وأهوائهم ،فيتألمون منه ،ويتمرّدون عليه ،ولكنَّ القضيّة هنا أنَّها تمثل إثارة للمشكلة من غير جدوى ،لأنَّ المسألة لا تُمثِّل شيئاً مهمّاً على مستوى العقيدة والحياة .