في أجواء الشهادة على الوصية
وهذا نداءٌ للمؤمنين حول الشهادة على الوصيَّة ،فقد أراد الله للحقوق الّتي بين النَّاس أن لا تضيع ولا تخضع للصُّدف في طبيعة وسائل الإثبات ،فجعل الشهادة وسيلةً لتأكيد الحقّ عندما تتحرّك النوازع الذاتية لتدفع الإنسان إلى الانحراف والوقوع في قبضة الهوى والطمع ،فأراد أن يحمي الإنسان من نفسه ،فلا يستسلم لهواه ،ويحمي الحقّ من العدوان ،فلا يسقط أمام حالات الخيانة ،فإذا عرف مَنْ عليه الحقّ أنَّ هناك شهوداً ،كان ذلك ضمانة له من الانحراف ،وإذا عرف مَنْ له الحق أنَّ له الحجّة في حقّهِ ،كان ذلك موجباً للاطمئنان والثقة بالمستقبل .
وقد ركّزت هذه الآيات على حالةٍ خاصة من جملة الحالات التي تفرض الإتيان بالشهود ،وهي الحالة الّتي يصبح فيها الإنسان في مواجهة استحقاق الموت ،{يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} حيث يسبق هذا الاستحقاق بالوصيَّة لمن خلفه من الأبناء والأهل والأقارب .وربَّما كان التركيز على حالة الموت ،باعتبار أنَّها الحالة الّتي يخشى فيها الإنسان فوات الحقّ أو الحاجة ،فأراد الله للإنسان أن يشهد عدلين من المسلمين ،{اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} ممن تتوفر فيهم صفات الاستقامة على خط الشرع ،وتتحقق لديهم العناصر الأخلاقيّة الّتي تدعو إلى الثقة بصدقهم ،أمَّا إذا كان الإنسان في سفر ،ولم يجد أحداً من المسلمين ليُشْهِدَهُ على ذلك ،فلا مانع من أن يشهد شخصين من غير المسلمين{أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ،وقد جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت( ع ) أنَّ المراد بهم أهل الكتاب ،ولعلّ ذلك بلحاظ الحاجة إلى القسم بالله في بعض الحالات ،مما لا يتأتى إلاَّ من المؤمنين بالله .فإذا مات الإنسان ،وارتاب أولياء الميت بالشاهدين بسبب بعض الأوضاع الّتي تدفع إلى الشك ،مما يحقق لديهم قناعةً أو ما يشبه القناعة بانحرافهما عن الخط الصحيح للمسألة ،فيتقدمان إلى مجلس القسم{إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} ،وذلك بعد صلاة العصر بحسب إفادة بعض الرِّوايات ،واختيار هذا التوقيت ،قد يكون إمعاناً في توكيد الجوّ الروحي الَّذي يوحي بالمسؤوليّة ،ويُثير في النفس شيئاً من الرهبة والخوف ،لأنَّها الحالة الّتي يعيش فيها النَّاس مع الله .وخلاصة القسم ،أنَّهما لا ينحرفان عن خط الصدق في الشهادة مهما كلفهما ذلك من تضحيات ،ومهما قدم إليهما من إغراءات ،لأنَّ الشهادة تُمثِّل ،في وعيهما ،موقف الحقّ في شخصيّة الإنسان المؤمن ،فلا يُمكن أن يبيع موقفه هذا لأحدٍ مهما كان حجم الثمن وقيمته ،وأنَّهما لا يكتمان أيّ شيء منها ،لأنَّها أمانة الله عندهما ،فهما لم يشهدا ليضيفا إلى معلوماتهما الشخصيّة معلوماتٍ جديدة عن الأحداث والأشخاص ،بل شهدا من أجل إثبات الحقيقة ،وإيصال صاحب الحقّ إلى حقّه .ويضيفان إلى ذلك ،التأكيد على الموقف أنَّهما لَمِنَ الآثمين إذا انحرفا ،وبذلك يُقرّان على نفسيهما باستحقاق العقاب من الله على ذلك في ما يُمثِّله الإثم من نتائج وخيمة عند الله .