وتأتي بعد كل هذا الوعيد والإنذار والدعوة إلى التراجع ،الصورة الحقيقيّة لعيسى بن مريم( ع ):{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فهو رسول لله أرسله إلى عباده بعد فترة من خُلُوِّ الساحة من الرسل ،ليتجدد به خط الرسالات وحركة الرسل ،{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} صدّقت الله بإيمانها ،وأخلصت لله في العبادة والموقف ،وواجهت كل التحديات بروح المؤمنة الصادقة التقيّة ،فلم يكن في عيسى( ع ) أيٌّ مظهرٍ من مظاهر الألوهيّة أو أيُّ سرٍّ من أسرارها ،بل كانت آيات الله الظاهرة على يديه ،كالآيات الظاهرة على أيدي الرسل الَّذين سبقوه ،من دون فرق إلاَّ في الشكل ،تبعاً للظروف الّتي تتنوع من خلالها المعجزة .ولم يكن في أمّه أيّ سرٍ من أسرار القداسة الغيبية التي توحي بعبادتها من قبل النَّاس ،بل كانت قداستها الروحيّة بإخلاصها لله وصدقها في إيمانها به كأيةّ مؤمنةٍ تقيّةٍ أخرى ،ولكن بدرجةٍ أكبر وقيمةٍ أعلى ،لأنَّ الله فضّلها على نساء العالمين .وقد{كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} كما يأكله بقيّة البشر ،في نوعيته وطريقته ،فليس هناك أكل إلهي أو طريقة إلهيّة في الأكل .وذلك هو دليل المادية والحاجة والفاقة المنافية للألوهية ،فكيف يؤلهون مَنْ هذا شأنه ؟{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ،يكذِّبون ويتبعون الإفك من دون شعورٍ بالمسؤوليّة في خط العقيدة والعمل .