مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديبإسناده عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهما قال: «بعث رسول الله( ص ) عمرو بن أميّة الضمري بكتاب معه إلى النجاشي ،فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله( ص ) ،ثُمَّ دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه ،فأرسل إلى الرُّهبان والقسِّيسِينَ فجمعهم ،ثُمَّ أمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن ،فقرأ سورة مريم( ع ) فآمنوا بالقرآن وأفاضت أعينهم من الدمع ،وهمُ الَّذين أنزل فيهم:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} إلى قوله:{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} » .
وجاء في مجمع البيان قال: «نزلت في النجاشي وأصحابه .قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ،فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم ،فافتتن من افتتن ،وعصم الله منهم من شاء ،ومنع الله رسوله بعمّه أبي طالب ،فلمّا رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد ،أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: إنَّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد ،فاخرجوا إليه حتَّى يجعل الله عزَّ وجلّ للمسلمين فرجاً ،وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالحبشيّة عطيّة .وإنَّما النجاشي اسم الملك كقولهم: تبّع وكسرى وقيصر ،فخرج إليها سرّاً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة وهم: عثمان بن عفان وامرأته رقيّة بنت رسول الله( ص ) ،والزبير بن العوام ،وعبد الله بن مسعود ،وعبد الرحمن بن عوف ،وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ،ومصعب بن عمير ،وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أميّة ،وعثمان بن مظعون ،وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ،وحاطب بن عمرو ،وسهل بن البيضاء ،فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار ،وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله( ص ) وهذه هي الهجرة الأولى ،ثُمَّ خرج جعفر بن أبي طالب ،وتتابع المسلمون إليها ،وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان .فلمّا علمت قريش بذلك ،وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردوهم إليهم ،وكان عمارة بن الوليد شاباً حسن الوجه ،وأخرج عمرو بن العاص أهله معه ،فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر ،فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك تقبلني ،فأبى ،فلمّا انتشى عمرو دفعه عمارة في الماء ونشب عمرو في صدر السفينة وأخرج من الماء ،وألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما قبل أن يُقدما إلى النجاشي .
ثُمَّ وردا على النجاشي ،فقال عمرو بن العاص: أيُّها الملك ،إنَّ قوماً خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وصاروا إليك ،فردّهم إلينا .فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه ،فقال: يا أيُّها الملك سلهم أنحن عبيد لهم ؟قال: لا بل أحرار ،قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها ؟فقال: لا ما لنا عليكم ديون ،قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بها ؟قال عمرو: لا ،قال: فما تريدون منّا ؟آذيتمونا فخرجنا من دياركم ،ثُمَّ قال: أيُّها الملك ،بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام ،وأمرنا بالصّلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ،ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي ،فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى ،ثُمَّ قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ مما أنزل الله على نبيّك شيئاً ،قال: نعم ،فقرأ سورة مريم( ع ): فلمّا بلغ قوله:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [ مريم: 25] قال: هذا والله هو الحقّ .فقال عمرو: إنَّه مخالف لنا فردّه إلينا ،فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك ،وقال: أرجعوا إلى هذا هديته ،وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا فإنَّكم سيوم ،والسيوم: الآمنون ،وأمر لهم بما يُصلحهم من الرزق ،فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله( ص ) وعلا أمره وهادن قريشاً وفتح خيبر ،فوافى جعفر إلى رسول الله( ص ) بجميع من كانوا معه ،فقال رسول الله( ص ): لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر .ووافى جعفر وأصحابه رسول الله( ص ) في سبعين رجلاً منهم اثنان وستون من الحبشة ،وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب ،فقرأ عليهم رسول الله( ص ) سورة ( يس ) إلى آخرها ،فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا ،وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ،فأنزل الله فيهم هذه الآيات »
لم يلتقِ النبيّ محمَّد( ص ) أهل الكتاب في موقف صراع في مكّة ،فقد كان المجتمع المكّي مجتمعاً وثنياً مشركاً ،إلاَّ من بعض أفراد قلائل ،ولذا لم نجد في الآيات ،الّتي نزلت في مكّة ،ما يشير إلى أي جدال أو حوار بينه وبينهم ،لأنَّه كان مشغولاً بمحاربة الشرك والوثنيّة من جهة ،ولأنَّهم لا يعتبرون مشكلة إسلاميّة من جهة أخرى .
وربَّما نلمح في البداية تعاطفاً وتقارباً بينه وبين المجتمع النصراني في مكان آخر ،من خلال مشروع هجرة المسلمين المضطهدين إلى الحبشة فراراً بدينهم ،أملاً في أن يجدوا هناك بعض الحريّة والطمأنينة في ممارسة عقيدتهم ،وهذا ما حصل كما يحدثنا به التاريخ الإسلامي ،وتشير إليه بعض الآيات الكريمة .فقد حدّثنا التاريخ أنَّهم قد حصلوا على الحماية القويّة عند ملك الحبشة النجاشي ،حيث حال بينهم وبين قريش الّتي لحقت بهم إلى هناك لتوغر صدره عليهم ،فلم يستجب لذلك ،بل أصغى مع جماعته إلى أفكار المسلمين وأقوالهم ،وانسجموا مع الأجواء الروحيّة الّتي أفاضها القرآن الكريم عليهم ،بما تلاه المسلمون من الآيات الّتي تتحدّث عن عيسى وأمّه( ع ) ،وعن المعاني الروحيّة الكبيرة الّتي أوحى بها الله إلى نبيه ،ما يلتقي مع الخط الواحد للرسالات السماوية ،لأنَّهم رأوا فيها روحانيّة المسيحيّة الحقَّة ،وإخلاصها وواقعيتها الخاشعة ،مما جعل{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} خشوعاً لله سبحانه ،كما أشارت إليه هذه الآيات .
اليهود غدر دائم بالمسلمين
وهاجر النبيّ محمَّد( ص ) إلى المدينة ليشيّد المجتمع الإسلامي الجديد على دعائم القوّة والعلم والتقوى ،فواجه اليهود من أهل الكتاب هناك ،إذ لم يكن في المدينة نصارى ،متجنباً الاصطدام بهم ،بل أكثر من ذلك ،اتخذ موقفاً منهم في غاية الحكمة ،إذ عقد معهم معاهدة صداقةٍ تفسح المجال للتعايش السلمي بين الديانتين ،قائمةٍ على أساس الحوار بعيداً عن العصبيات والسلبيات .وكان من الممكن لهذه المعاهدة أن تدوم وتخلق الجوّ الرائع للتعايش الديني السلمي ،لكنَّ اليهود أبوا أن يساهموا في استقرار هذا الجو ،فمضوا يعدّون العدّة للوقوف بوجه الدعوة الجديدة والنبيّ الجديد .
قال ابن إسحاق ،في رواية ابن هشام عنه في سيرة النبيّ( ص ): «ونصبتعند ذلكأحبار يهود لرسول الله( ص ) العداوة ،بغياً وحسداً وضغناً ،لما خصّ الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم ،وانضاف إليهم رجالٌ من الأوس والخزرج ممن كان عسى على جاهليته ،فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث ،إلاَّ أنَّ الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه ،فظهروا بالإسلام ،واتخذوه جُنَّةً من القتل ونافقوا في السرّ ،وكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبيّ( ص ) وجحودهم الإسلام ،وكانت أحبار يهود هم الَّذين يسألون رسول الله( ص ) ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل ،فكان القرآن ينزل فيهم في ما يسألون عنه… » .وذلك لصرف النبيّ محمَّد( ص ) وإشغاله عن مهمته الأصليّة في بناء القاعدةبما تثيره من القضايا الجانبيّة ،أو بما تُمارسه من أساليب اللف والدوران ،ولتشغل المسلمين عن همومهم العمليّة من أجل مواجهة حياتهم الجديدة في ظل الإسلام ،بما يحدثون في داخلهم من ارتباكٍ وقلقٍ وتشويش ،وبما يُثيرونه بينهم من خلافاتٍ وانقسامات .
اليهود وعقدة الزهو والغرور
وفي ضوء هذا العرض البسيط الَّذي يجعلنا نعيش في الأجواء التاريخيّة لنزول هذه الآيات ،نستطيع أن نعرف عقدة اليهود الّتي يحملونها ضدّ الإسلام والمسلمين في ما أثاروه ويُثيرونه من مشاكل وخلافات وهموم وتحديات للواقع الإسلامي على مدى التاريخ ،لأنَّهم لا ينطلقون من قيمٍ فكريّةٍ وروحيّةٍ معيّنة في ما يخططون ويكيدون له في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم ،بل ينطلقون من شعورٍ مريضٍ بالزهو والخيلاء والكبرياء والتفوّق على بقيّة الشعوب ،الأمر الَّذي يدفعهم إلى المزيد من العنصريّة السوداء المتعصبة الحاقدة ،ويدفعهم إلى خنق كل عوامل التقدّم والنموّ والقوّة الّتي للآخرينلا سيّما المسلمينالَّذين يطرحونمن خلال القرآن الكريمالرفض لفكرة شعب الله المختار ،والدعوة إلى إقامة الحياة بكل مظاهرها وتجلياتها وأبعادها على أساس المنطق المسلَّح بالحجج والبراهين الدامغة ،وبوسيلة الحوار البنّاء والجدل بالّتي هي أحسن .ولذلك ،فإنَّ قصة اليهود في التاريخ هي قصة الشعب المعقّد الَّذي انطلق من التوراة في البداية ،لكنَّه ما لبث أن ابتعد عنها في تفكيره ،واقتصر منها على الإطار دون الصورة الحقيقيّة ،وصولاً إلى استبدالها بالصور المزيفة ،الّتي تُحاكي زيفهم الفكري والروحي الَّذي يعيشونه في خطوات الماضي والحاضر والمستقبل .