/م71
المفردات:
ليستفزونك: أي: ليزعجونك بمعاداتهم .
لا يلبثون خلافك: أي: لا يبقون بعدك .
التفسير:
76-{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} .
أي: ولقد حاول كفار مكة أن يزعجوك ويستخفوك بعداوتهم ومكرهم ،فعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه ؛ليخرجوه من أرض مكة- ولكن الله أوحى إليه: أن يخرج مهاجرا ؛لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة .
ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة وقسرا ؛لحل بهم الهلاك{وإذا لا يلبسون خلافك إلا قليل} .
قال الطبري: ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل{[444]} .
قال الطبري: واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليخرجوه من الأرض ،وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها فقال بعضهم: الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود ،والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها: المدينة{[445]} .
وقال النيسابوري:
وروى عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر
إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم ،وقالوا: يا أبا القاسم ،إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة ،وكانت مهاجر إبراهيم فلم خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك ،وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم ،فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة أو بذي الحليفة ؛حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام ؛لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع ،وعلى هذا القول تكون هذه الآية مدنية{[446]} .
وقال قتادة ومجاهد: بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا ،والأرض أرض مكة{[447]} .
ونحن نرجح أن الآية مكية ،ونرى أن الرواية التي أوردها النيسابوري عن ابن عباس تثير في النفس بعض التساؤل ؟
فكيف يعسكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة عازما على الخروج إلى الشام ؟
وهل بلغت به السذاجة أن يترك قاعدة الإسلام في المدينة ويذهب مختارا إلى الشام من أجل كيد اليهود وحيلهم ؟
ونحن لا ننكر قدرة اليهود على الدس والخداع .
ولا نستبعد أن يميل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حديثهم برهة أو لحظة ،ثم لا يلبث أن ينكشف أمامه الأمر .
أما أن يصل الأمر إلى حد الخروج من المدينة والعزم على السفر إلى الشام فهذا ما نستبعده ؛لما عرف واشتهر من صدق فراسة الرسول صلى الله عليه وسلم ،وبعد نظره ورجاحة عقله وسلامة تفكيره .
وقد رجح الطبري- شيخ المفسرين- أن الآية مكية لا مدنية فبعد أن روى الطبري عدة روايات منها ما يفيد أن الآية مكية ،ومنها ما يفيد أن الآية مدنية عقّب على هذه الروايات بقوله:
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول قتادة ومجاهد ( أي: بأن الآية مكية ) وذلك أن قوله{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} في سياق خبر الله عز وجل عن قريش وذكره إياهم ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر فيوجه قوله: وإن كادوا إلى أنه خبر عنهم ،فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره{[448]} .
ثم إن تاريخ الدعوة الإسلامية ،ونصوص القرآن الكريم تفيد: أن المسلمين كانوا مستضعفين في مكة ،معرضين للعذاب والمصادرة .
وهذا الوضع يغري الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج والمهاجرة ،أما وضعهم في المدينة فقد كان مستقرا نسبيا ؛إذ آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووضع أساس الدولة الجديدة ،وقاد غزوات ناجحة ،وعقد معاهدات لحسن الجوار مع جيرانه من اليهود .
كل هذا يرجح أن القوم الذين هموا بإخراجه هم قريش وأن الأرض التي كاد أن يخرج منها هي مكة .
وفي سورة الأنفال ( وهي مدنية نزلت سنة 2 هجرية ) يقول القرآن:{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} .( الأنفال: 26 ) .
وقد قال المفسرون: إن هذه الآية تشير إلى ضعف المسلمين وقلتهم في مكة ،وإلى عزتهم وقوتهم بالمدينة ،خصوصا بعد النصر المبين الذي أحرزوه في غزوة بدر الكبرى .