{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( 105 ) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ( 106 ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( 107 )} .
/م105
التفسير:
105 - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ .
الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء .
الذكر: اللوح المحفوظ .
يطلق الزبور على الكتاب الذي أعطى لسيدنا داود ،قال تعالى: وآتينا داود زبورا .( الإسراء: 55 ) .
ويطلق الذكر على التوراة .قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ .( الأنبياء: 48 ) .
ويكون المعنى:
ولقد كتبنا في زبور داود من بعد توراة موسى ،أن ميراث الأرض والسيطرة عليها ،والنجاح في الغلبة على أرض الدنيا ،يكون لمن أخذ بأسباب الحضارة والقوة والتقدم والعمل والأمل ،وودع الكسل والترف والتراخي والفتور ،فهو صالح لعمارة الأرض واستغلال خيراتها ،وأهل لميراثها .
وتحتمل الآية وجها آخر:
أن المراد بالزبور: المزبور أي: المكتوب ،تقول: زبرت الكتاب ،أي: كتبته ،ويكون المراد بالزبور: جميع الكتب السماوية ،التي كتبها الله إلى رسله ،وأنزلها إلى خلقه ،ويكون المراد بالذكر: اللوح المحفوظ ،كأن الآية تشير إلى ناموس عام ،وقاعدة إلهية ،وسنة من سنن الله الكونية ،أن من تكون له الغلبة والرياسة ،والقدرة والقوة والسيطرة على أرض الدنيا ،هم أهل الصلاح والعمل .
اتجاهان للمفسرين:
من المفسرين من رأى أن المراد بالأرض أرض الجنة ،واستشهد بقوله تعالى في القرآن الكريم:
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ .( الزمر: 74 ) .
ومن المفسرين من رأى أن المراد بالأرض أرض الدنيا واستشهد بقوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ .( القصص: 5 ،6 ) .
وعند التأمل نرى أنه لا يمنع أن يكون من إعجاز الآية ،صلاحها للإطلاقين معا في وقت واحد ،فيراد من الأرض أرض الدنيا وعزها ،وأرض الجنة ونعيمها ،فعباد الله الصالحون ،الذين يعملون ويجمعون بين العمل المادي ،والصلاح والتقوى ،أهل لميراث التفوق في أرض الدنيا ،ودخول الجنة في الآخرة .
من تفسير ابن كثير:
يقول تعالى: مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة ،في الدنيا والآخرة ،ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة ،كقوله تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ .( الأعراف: 128 ) .
وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ .( غافر: 51 ) .
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ...( النور: 55 ) .
وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة ،ولهذا قال تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ .
قال مجاهد: الزبور: الكتب ،والذكر: أم الكتاب عند الله .واختار ذلك ابن جرير رحمه الله .1 ه .
وجاء في تفسير المراغي ما خلاصته:
صلاح الأمة يقوم على أربعة عمد:
1 – أن يكون قادتها علماء مفكرين ،وساستها حكماء عادلين بعيدين عن الجور والظلم ،يعملون لخير الأمة ورقيها .
2 – أن يكون لها جيش منظم متطور متقدم ،فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون ،ولديه من الأسلحة ووسائل الدفاع ،ما يكشف عنه العلم المتطور ،من طائرات وغواصات وسفن حربية ،وجند حذقوا فنون الحرب ،وبلوا أساليبها المختلفة .
3 – أن يقوم أبناء الحرف المختلفة من تجار وصناع وزراع بأداء أعمالهم على الوجه المرضي ،وكل طائفة تظاهر الطوائف الأخرى ،وتعاونها الجميع .
4 – أن تنظم هذه الطوائف أعمالها ،بحيث تتوزع هذه المهن بيد الأفراد بحسب حاجة الأمة ،ويكون في كل طائفة جماعة مبرزون ،يفكرون فيما يرقي شئون الطائفة ،بحيث تنافس أمثالها في الأمم الأخرى أو تفوقها ،وهذا حكم أيدته التجارب ،في سائر العصور لدى جميع الدول .