/م77
78 - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ...
في الله: في سبيله .
جاهدوا: الجهاد استفراغ الوسع في مجاهدة العدو ،وهو ثلاثة أضرب:
1 – مجاهدة العدو الظاهر كالكفار .
2 – مجاهدة الشيطان .
3 – مجاهدة النفس والهوى وهذه أعظمها .
اجتباكم: اختاركم .
حرج: ضيق أو شدة .
ملة: شريعة .
اعتصموا بالله: استعينوا به وتوكلوا عليه .
مولاكم: ربكم ومالك أمركم ومدبر شئونكم .
النصير: المعين .
تدعو الآية إلى الجهاد في سبيل الله ،والقرآن الكريم حافل بالدعوة إلى الجهاد ،والحث على الشهادة ،في سبيل الإسلام ونصر الدين ومقاومة الكافرين ،وأعداء الدين ،ومن أنواع الجهاد ،جهاد الشيطان ،وسد منافذه وإفساد خططه وحيله .
قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ...( فاطر: 6 ) .
وقال عز شأنه: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ...( الأعراف: 27 ) .
وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ .( النحل: 99 ،100 ) .
ومن أنواع الجهاد جهاد النفس والهوى وذلك بالمشارطة ،والمراقبة ،والمعاتبة ،والمعاقبة ،والمحاسبة ،والإخلاص في الدعاء ،فيشترط على نفسه الاستقامة ،والبعد عن المعاصي ،ويراقب نفسه في تصرفاتها ،ويلومها على الأخطاء ،فإذا تكررت الأخطاء ،عاقب نفسه بالصيام ،أو تلاوة القرآن ،أو غير ذلك .
وعلى المسلم أن يجلس وقتا ما في نهاية كل يوم لتصفية الحساب مع نفسه ،فإن وجد خيرا فليحمد الله ،وإن وجد معصية ،ندم واستغفر ،وجدد التوبة والالتجاء إلى الله تعالى ،طالبا منه قبول التوبة والهداية والمعونة .
وأفضل الجهاد ،مقاومة الظلم ،قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )l .
أخرجه ابن ماجة ،والخطيب ،وأحمد ،والطبراني ،والبيهقي .
هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .
هو سبحانه اختاركم واصطفاكم لحمل خاتم الأديان ،وأرسل إليكم خاتم الرسل ،وأنزل إليكم أكرم الكتب السماوية ،وأتم الله عليكم نعمته بالتأييد والنصر .
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .
ولم يجعل في الدين الذي تعبدكم ضيقا لا مخرج منه ،ولم يكلفكم ما يشق عليكم ،بل جعل التكاليف في حدود الوسع والطاقة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ...( البقرة: 286 ) .
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .( البقرة: 185 ) .
ومن ذلك التيسير أنه أباح للمسافر قصر الصلاة ،والإفطار في رمضان ،وأباح لنا التيمم عند فقد الماء ،أو تعذر استعماله ،وأباح في الصلاة القيام والقعود والنوم على الجنب ،حسب الحالة الصحية للمصلي ،وأباح الفطر في رمضان للحامل والمرضع والمشتغل في الأعمال الشاقة ،ولم يوجب علينا الجمعة في المساجد حين السفر أو المطر ،أو الخوف من عدو أو سبع ،إلى نحو أولئك ،كما فتح الله لنا باب التوبة ،وشرع لنا الكفارات في حقوقه ،ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الولي .
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .( المائدة: 6 ) .
وقوله عز شأنه: رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .( البقرة: 286 ) .
مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ .
أي: وملتكم هي ملة إبراهيم الحنيفية السمحة ،وإبراهيم هو الذي بنى البيت الحرام ،ودعا الناس إلى حجه والصلاة فيه ،بتكليف من الله تعالى ،ونحو الآية قوله تعالى: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .( الأنعام: 161 ) .
قال ابن جرير: وهو منصوب على تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم .
والمعنى:
إن دينكم الذي لا حرج فيه هو دين إبراهيم ،فالزموه لأنه الدين القيم ،ووصف سبحانه إبراهيم عليه السلام بالأبوة لهذه الأمة ،لأن إبراهيم أب لشجرة الأنبياء ،فهو أبو الملة الإبراهيمية الحنيفية السمحة ،المائلة عن الباطل إلى الحق ،ومن نسل إبراهيم إسماعيل ،وكان من ذريته نبي واحد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ومن نسل إبراهيم إسحاق ومن نسله يعقوب الملقب بإسرائيل ومن نسله الأسباط وهم الأحفاد ،أحفاد إبراهيم ،وكان من نسلهم آلاف الأنبياء لبني إسرائيل .كما يتضح ذلك من الآتي:
إبراهيم
إسماعيل إسحاق
محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعقوب ( إسرائيل )
يوسف .بنيامين ..( الأسباط )
آلاف الأنبياء من بني إسرائيل
ومنهم داود وسليمان وأيوب
وموسى وزكريا ويحيى
وعيسى ...
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا .
أي: الله سماكم بهذا الاسم الأكرم من قبل في الكتب المقدسة وفي هذا .يعني: القرآن .
وقال بعض المفسرين: الضمير يعود إلى إبراهيم وذلك لقوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ...( البقرة: 128 ) .
ورجح ابن كثير الرأي الأول فإن الله تعالى هو الذي اختار هذه الأمة وجعلها خير أمة أخرجت للناس ،وسماها أمة المسلمين بدليل ما جاء بعد هذه الفقرة ،من امتياز هذه الأمة بالشهادة على الناس ،فمعها الدين الحق والشريعة السمحاء .
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ .
أي: إنما جعلكم هكذا أمة وسطا عدولا ،مشهودا بعدالتكم بين الأمم ،ليكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة ،بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ،وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم ،وإنما قبلت شهادة الأمة الإسلامية على الناس لسائر الأنبياء ،لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم ،وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم .
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يدعى نوح – عليه السلام – يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب ،فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به ؟فيقول: محمد وأمته .فيشهدون بأنه قد بلغ )li .
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ...( البقرة: 143 ) .
فالأمة الإسلامية أمة وسط .
حيث إن مكة فيها البيت الحرام وهو في منطقة وسط ،أشبه بمنتصف الدائرة حيث يتجه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها في الصلاة إلى البيت الحرام ،والإسلام رسالة كاملة ،أساسها القرآن الكريم والسنة المطهرة ،والاجتهاد الذي يعتمد على فهم النصوص وروح التشريع والقياس والاستحسان وأعمال الصحابة وسد الذرائع والمصالح المرسلة وغير ذلك من القواعد ،التي تكسب الفقه الإسلامي مرونة ،وصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان .وكان اليهود قد بالغوا في المادية ،فنزلت التوراة مشتملة على تشريعات فيها بعض العقوبات وتحريم بعض الطيبات .
قال تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ...( النساء: 160 ) .
ثم جاءت المسيحية تهتم بالنواحي الروحية ؛ويعتبر العهد الجديد – أي: الأناجيل – متمما للعهد القديم أي: للتوراة والتلمود .( والتلمود ) كتاب صعب وهو مقدس عند اليهود كتقديس التوراة ويقول المسيح عليه السلام: ( ما جئت لأنقض الناموس بل لأتممه ) ،ثم جاء الإسلام ،جامعا بين المادة والروح ،والعناية بالإلهيات والنبوات والعبادات والمعاملات ،مع العناية بالتقوى ويقظة الضمير ونظافة القلب ،وحسن العلاقة مع الله ،أي أن الإسلام اشتمل على محاسن المبادئ والدعوات ،وتخلص من مساوئها .
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ .
أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ،فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ،وترك ما حرم ،ومن أهم ذلك: إقام الصلاة كاملة في أوقاتها بخشوعها ،وإيتاء الزكاة التي كلفكم الله بها إلى مستحقيها .
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ .
استعينوا بالله وتمسكوا بحبله وتوكلوا عليه وتأيدوا به ،هو حافظكم وناصركم على أعدائكم .
فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ .
نعم المولى ونعم المعين ،فمن تولاه كفاه كل ما أهمه ،وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه ،إذ لا ناصر في الحقيقة سواه ،ولا ولي غيره ،فله الحمد وهو رب العالمين .