{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ( البقرة:108 ) .
التفسير:
قوله تعالى:{أم تريدون أن تسألوا}؛{أم} هنا منقطعة بمعنى"بل "وهمزة الاستفهام ؛أي: بل أتريدون ؛والإضراب هنا ليس للإبطال ؛لأن الأول ليس بباطل ؛بل هو باق ؛فالإضراب هنا إضراب انتقال ؛و"الإرادة "هنا بمعنى المشيئة ؛وإن شئت فقل: بمعنى المحبة ؛والخطاب هنا قيل: إنه لليهود حينما سألوا النبيصلى الله عليه وسلم آيات يأتي بها ؛وقيل: إنه للمشركين ؛لقوله تعالى:{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} [ الإسراء: 90]؛وقيل: إنه للمسلمين ؛والآية صالحة للأقوال كلها ؛لأن محمداًصلى الله عليه وسلم رسول للجميع ؛لكن تخصيصها باليهود يبعده قوله تعالى:{كما سئل موسى من قبل}؛فمعنى الآية: أتريدون أن توردوا الأسئلة على رسولكم كما كان بنو إسرائيل تورد الأسئلة على رسولها ؛ولا شك أن الاستفهام هنا يراد به الإنكار على من يكثرون السؤال على النبيصلى الله عليه وسلم ..
قوله تعالى:{رسولكم}: أضافه سبحانه وتعالى إليهم ،مع أنه في آيات كثيرة أضافه الله إلى نفسه:{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم} [ المائدة: 15]؛والجمع بين ذلك: أن كل واحدة من الإضافتين تنزل على حال: فهو رسول الله باعتبار أنه أرسله ؛ورسولنا باعتبار أنه أرسل إلينا ؛والمراد به محمدصلى الله عليه وسلم بالإجماع ..
قوله تعالى:{كما سئل موسى من قبل} أي كما سأل بنو إسرائيل موسى من قبل ،كقولهم:{لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [ البقرة: 55] ،وقولهم:{اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [ الأعراف: 138] ،وغير ذلك ؛فبنو إسرائيل هم المشهورون بالأسئلة ،والتعنت ،والإعجاز ؛أما هذه الأمة فإنها قد أدَّبها الله عز وجل فأحسن تأديبها: لا يسألون إلا عن أمر لهم فيه حاجة ..
قوله تعالى:{ومن يتبدل الكفر بالإيمان} أي يأخذ الكفر بديلاً عن الإيمان ؛{فقد ضل} أي تاه{سواء السبيل} أي وسط الطريق ؛يعني يخرج عن وسط الطريق إلى حافات الطريق ،وإلى شعبها ؛وطريق الله واحد ؛وعليك أن تمشي في سواء الصراط .أي وسطه .حتى لا تعرض نفسك للضلال ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: إنكار كثرة الأسئلة لرسول اللهصلى الله عليه وسلم ؛لأن الاستفهام:{أم تريدون} يقصد به الإنكار ؛وقد قال النبيصلى الله عليه وسلم محذراً من ذلك:"ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم "{[137]}؛وصح عن النبيصلى الله عليه وسلم:"أن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته "{[138]}؛فهذا نهي ،وإنكار على الذين يسألون رسول اللهصلى الله عليه وسلم مسائل ؛والمطلوب من المسلم في زمن الوحي أن يسكت حتى ينزل ما أراد الله عز وجل من أمر أو نهي ..
. 2 ومن فوائد الآية: تأكيد ذم هذا النوع من الأسئلة ؛لقوله تعالى:{رسولكم}؛فكأنه أراد أنه لما كان رسولكم ،فالذي ينبغي منكم عدم إعناته بالأسئلة ..
. 3 ومنها: أن إرسال محمدصلى الله عليه وسلم من مصالحنا ،ومنافعنا ؛لقوله تعالى: ( رسولكم ) ..
. 4 ومنها: أن كثرة الأسئلة للنبيصلى الله عليه وسلم فيها مشابهة لليهود ؛لقوله تعالى: ( كما سئل موسى من قبل ) .
. 5 ومنها: أنه لا ينبغي إلقاء السؤال إلا لمصلحة: إما رجل وقعت له مسألة يسأل عن حكمها ؛أو طالب علم يتعلم ليستنتج المسائل من أصولها ؛أما الأسئلة لمجرد استظهار ما عند الإنسان فقط ؛أو أقبح من ذلك من يستظهر ما عند الإنسان ليضرب آراء العلماء بعضها ببعض ،وما أشبه ذلك ؛أو لأجل إعنات المسؤول ،وإحراجه ؛فكل هذا من الأشياء المذمومة التي لا تنبغي ..
. 6 ومن فوائد الآية: ذم بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسىصلى الله عليه وسلم ،حيث إن الله سبحانه وتعالى ذكرهم في هذه الآية على سبيل الذم ..
. 7 ومنها: أن اليهود كانوا سألوا موسى عن أشياء فكانت العاقبة فيها وخيمة: فقد سألوا عن أشياء بينت لهم ؛لكنهم لم يعملوا بها ؛فكانت نتيجة السؤال الخيبة ..
. 8 ومنها: إثبات رسالة موسىصلى الله عليه وسلم ؛لقوله تعالى:{كما سئل موسى من قبل} يعني: وهو رسول ..
. 9 ومنها: ذم من استبدل الكفر بالإيمان ؛لقوله تعالى:{ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل؛وهذا يشمل من بقي على كفره بعد عرض الإيمان عليه ،ومن ارتد بعد إيمانه ؛فإنه في الحقيقة تبديل ؛لأن كل مولود يولد على الفطرة ؛فإذا كفر فقد تبدل الكفر بالإيمان ..
. 10 ومنها: أن من اختار الكفر على الإيمان فهو ضال ..
. 11ومنها: عكس هذه المسألة: أن من يتبدل الإيمان بالكفر فقد هُدي إلى سواء السبيل ..
. 12 ومنها: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان ليس له إرادة في عمله ،وأنه مجبر عليه ؛لقوله تعالى:{ومن يتبدل الكفر بالإيمان} ..
. 13 ومنها: أنه يجب على السائل أن يعمل بما أجيب به ؛لأنه إذا علم ولم يعمل فقد تبدل الكفر بالإيمان من بعد ما تبين له أنكر ؛فالواجب على المرء إذا سأل من يثق به أن يعمل بقوله ؛ولهذا قال العلماء: ومن سأل مفتياً ملتزماً بقوله حرم عليه أن يسأل غيره ؛لأنه حين سأله كان يعتقد أن الذي يقوله هو الشرع ؛فإذا كان يعتقد هذا فلا يسأل غيره ؛نعم ،إذا سأل إنساناً يثق به بناءً على أن فتواه هو الشرع ،وأفتاه ،ولكنه سمع في مجلس عالم آخر حكماً نقيض الذي أُفتي به مدعَّماً بالأدلة ،فحينئذ له أن ينتقل ؛بل يجب عليه ؛أو سأل عالماً مقتنعاً بقوله للضرورة .لأنه ليس عنده في البلد أعلم منه .على نية أنه إذا وجد أعلم منه سأله ؛فهذا أيضاً يجوز أن يسأل غيره إذا وجد أعلم منه ..