)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) ( البقرة:83 )
التفسير:
قوله تعالى:{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي اذكروا إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ؛و"الميثاق ": العهد ؛وسمي"العهد "ميثاقاً ؛لأنه يوثق به المعاهد ،كالحبل الذي توثق به الأيدي ،والأرجل ؛لأنه يُلزمه ؛و{إسرائيل} هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ؛وبنوه: ذريته من ذكور ،وإناث ،كما يقال:"بنو تميم "لذكورهم ،وإناثهم ؛و"بنو إسرائيل "بنو عم للعرب ؛لأن العرب من بني إسماعيل ؛وهؤلاء من بني إسرائيل ؛وجدهم واحد .وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم والميثاق بينه الله سبحانه وتعالى بقوله:{لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}؛فالميثاق اشتمل على ثمانية أمور: .
الأول: أن لا يعبدوا إلا الله ؛لقوله تعالى:{لا تعبدون إلا الله}؛و"العبادة "معناها: الذل ،والخضوع ؛مأخوذة من قولهم طريق معبَّد .أي مذلَّل ..
الثاني: الإحسان إلى الوالدين ؛لقوله تعالى:{وبالوالدين إحساناً} أي أحسنوا بالوالدين إحساناً ؛وهو شامل للإحسان بالقول ،والفعل ،والمال ،والجاه ،وجميع طرق الإحسان ؛لأن الله أطلق ؛فكل ما يسمى إحساناً فهو داخل في قوله تعالى:{وبالوالدين إحساناً}؛والمراد ب"الوالدين "الأب ،والأم ،والأباعد لهم حق ؛لكن ليسوا كحق الأب ،والأم الأدنيين ،ولهذا اختلف إرثهم ،واختلف ما يجب لهم في بقية الحقوق ..
الثالث: الإحسان إلى القرابة ؛لقوله تعالى:{وذي القربى}؛وهي معطوفة على قوله تعالى:{بالوالدين}؛والمعنى: وإحساناً بذي القربى ؛و
{ذي} بمعنى صاحب ؛و{القربى} بمعنى القرابة ؛ويشمل: القرابة من قِبَلِ الأم ؛والقرابة من قِبَلِ الأب ،لأن{القربى} جاءت بعد"الوالدين "أي القربى من قِبَل الأم ،ومن قِبَل الأب ..
الرابع: الإحسان إلى اليتامى ؛لقوله تعالى:{واليتامى}: جمع يتيم .وهو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ من ذكر ،أو أنثى ،وأوصى الله تعالى باليتامى ؛لأنه ليس لهم من يربيهم ،أو يعولهم ؛إذ إن أباهم قد توفي ؛فهم محل للرأفة ،والرحمة ،والرعاية ..
الخامس: الإحسان إلى المساكين ؛لقوله تعالى:{والمساكين}: جمع مسكين وهو الفقير الذي أسكنه الفقر ؛لأن الإنسان إذا اغتنى فإنه يطغى ،ويزداد ،ويرتفع ،ويعلو ؛وإذا كان فقيراً فإنه بالعكس ،وهنا يدخل الفقراء مع{المساكين}؛لأن"الفقراء "،و "المساكين "من الأسماء التي إذا قرنت افترقت ؛وإذا افترقت اجتمعت ؛فكلمة"الفقراء "إذا كانت وحدها شملت الفقراء ،والمساكين ؛و "المساكين "إذا كانت وحدها شملت الفقراء ،والمساكين ؛وإذا قيل: فقراء ومساكين .مثل آية الزكاة:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [ التوبة: 60] .صار"الفقراء "لها معنى ؛و "المساكين "لها معنى ؛لما اجتمعت الآن افترقت: ف "الفقير ": من لا يجد شيئاً من الكفاية ،أو يجد دون النصف ؛و "المسكين ": من يجد نصف الكفاية دون كمالها ..
السادس: أن يقولوا للناس قولاً حسناً ؛لقوله تعالى:{وقولوا للناس حسناً} بسكون السين ،وفي قراءة:{حسَناً} بفتحها ؛والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته ؛وفي معناه ،ففي هيئته: أن يكون باللطف ،واللين ،وعدم الغلظة ،والشدة ،وفي معناه: بأن يكون خيراً ؛لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير ؛وكل قول خير فهو حسن ..
السابع: إقامة الصلاة ؛لقوله تعالى:{وأقيموا الصلاة} أي ائتوا بها قائمة .أي قويمة ليس فيها نقص ؛وذلك بأن يأتوا بها بشروطها ،وأركانها ،وواجباتها ؛وكمال ذلك أن يأتوا بمستحباتها ؛و{الصلاة} تشمل الفريضة ،والنافلة ..
الثامن: إيتاء الزكاة ؛لقوله تعالى:{وآتوا الزكاة} أي أعطوها مستحقها ؛و"الزكاة "هي النصيب الذي أوجبه الله لمستحقه في الأموال الزكوية ..
قوله تعالى:{ثم توليتم إلا قليلاً منكم} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ؛وفائدته: إدخال الموجودين في عهد النبيصلى الله عليه وسلم في هذا الحكم .أعني التولي ؛و"التولي "ترك الشيء وراء الظهر ؛وهذا أبلغ من الإعراض ؛لأن الإعراض قد يكون بالقلب ،أو بالبدن مع عدم استدبار ..
قوله تعالى:{وأنتم معرضون} الجملة هنا حالية ؛أي توليتم في إعراض ؛وذلك أن المتولي قد لا يكون عنده إعراض في قلبه .فقد يتولى بالبدن ،ولكن قلبه متعلق بما وراءه ؛ولكن إذا تولى مع الإعراض فإنه لا يرجى منه أن يُقْبِل بعد ذلك ..
الفوائد:
. 1 ن فوائد الآية: بيان عظمة الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{وإذ أخذنا}؛لأن الضمير هنا للتعظيم ؛وهو سبحانه وتعالى العظيم الذي لا أعظم منه ..
. 2 ومنها: أن التوحيد جاءت به الرسل جميعاً ؛لقوله تعالى: ( لا تعبدون إلا الله ) .
. 3 ومنها: أن العبادة خاصة بالله .تبارك وتعالى ؛فلا يعبد غيره ؛لقوله تعالى:{لا تعبدون إلا الله}؛لأن هذا يفيد الحصر ..
. 4 ومنها: وجوب الإحسان إلى الوالدين ؛لقوله تعالى:{وبالوالدين إحساناً}؛وإنما أوجب ذلك ؛لأن نعمة الوالدين على ولدهما هي التي تلي نعمة الله عزّ وجلّ ؛ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة لقمان:{أن اشكر لي ولوالديك} [ لقمان: 14]؛فهما سبب وجودك ،وإمدادك ،وإعدادك .وإن كان أصل ذلك من الله ؛فلولا الوالدان ما كنت شيئاً ؛والإحسان إلى الوالدين شامل للإحسان بالقول ،والفعل ،والمال ،والجاه ،وغير ذلك من أنواع الإحسان ؛وضده أمران ؛أحدهما أن يسيء إليهما ؛والثاني: أن لا يحسن ،ولا يسيء ؛وكلاهما تقصير في حق الوالدين مناف لبرهما ؛وفي الإساءة زيادة الاعتداء ..
. 5 ومن فوائد الآية: وجوب الإحسان إلى ذوي القربى .أي قرابة الإنسان .وهم من يجتمعون به بالأب الرابع ،فما دون ؛ولكن يجب أن نعلم أن الإحسان يتفاوت ؛فكل من كان أقرب فهو أولى بالإحسان ؛لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف قوي بحسب قوة ذلك الوصف ؛فمثلاً يجب عليك من صلة العم أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد العم ؛ويجب عليك من صلة الخال أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد الخال ..
. 6 ومنها: وجوب الإحسان إلى اليتامى ؛وهو يشمل الإحسان إليهم أنفسهم ؛والإحسان في أموالهم ؛لقوله تعالى:{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [ الأنعام: 152] ..
. 7 ومنها: وجوب الإحسان إلى المساكين ؛وذلك بإعطائهم ما يستحقون من الزكاة ،ودفع الضرورة ،وما أشبه ذلك ..
. 8 ومنها: وجوب القول الحسن ؛لقوله تعالى:{وقولوا للناس حسناً}؛وضد القول الحسن قولان ؛قول سوء ؛وقول ليس بسوء ،ولا حسن ؛أما قول السوء فإنه منهي عنه ؛وأما القول الذي ليس بسوء ،ولا حسن فليس مأموراً به ،ولا منهياً عنه ؛لكن تركه أفضل ؛ولهذا وصف الله عباد الرحمن بأنهم:{لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مرُّوا كراماً} [ الفرقان: 72]؛وقال الرسول صلى الله عليه وسلم"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً ؛أو ليصمت "{[114]} ..
. 9 ومنها: الأمر بإقامة الصلاة على وجه الوجوب فيما لا تصح الصلاة إلا به ؛وعلى وجه الاستحباب فيما تصح الصلاة بدونه وهو من كمالها ..
. 10 ومنها: أن الصلوات مفروضة على من كان قبلنا ..
. 11 ومنها: وجوب إيتاء الزكاة ؛لقوله تعالى: ( وآتوا الزكاة )
. 12 ومنها: وجوب الزكاة على من كان قبلنا ؛ولكن لا يلزم أن يكونوا مساوين لنا في الأموال التي تجب فيها الزكاة ،ولا في مقدار الزكاة ،ولا في أهلها الذين تدفع إليهم ..
. 13 ومنها: أن بني إسرائيل مع هذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم لم يقوموا به إلا القليل منهم ..
. 14 ومنها: أن تولي بني إسرائيل كان تولياً كبيراً ،حيث كان تولياً بإعراض ..
. 15 ومنها: أن المتولي المعرض أشد من المتولي غير المعرض ..
. 16 ومنها: أن التولي قد يكون بإعراض ،وقد يكون بغير إعراض ؛لأنه لو كان بإعراض مطلقاً لم يستقم قوله: ( وأنتم معرضون )