العداوة: البغضاء .
المودة: المحبة .
القَس: جمعه قُسوس ،والقسيس: جمعه قسيسون ،الذي يكون بين الشمّاس ،والكاهن .
الراهب: العابد المنقطع عن الناس في دير أو صومعة حرم نفسه فيها من التنعم بالزواج ولَذَّات الطعام .
نزلت هذه الآية في نجاشي الحبَشَة وأصحابه ،حين هاجر فريق من المسلمين إلى هناك .قالت أم سَلَمة وكانت من المهاجرات إلى الحبشة قبل أن يتزوجها الرسول الكريم: لما نزلنا بأرض الحبشة جاوَرَنا بها خيرٌ جارٍ ،النجاشي ..أمِنّا على ديننا وعبدْنا الله تعالى ،لا نؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه .
وقد بقي المهاجرون فيها إلى أن هاجر الرسول الكريم إلى المدينة ،ولم يقدِروا الوصول إليه ،فقد حالت بينهم وبينه الحرب .
فلما كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش ،قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة ،فابعثوا إلى سيّدها رجلين من ذوي الرأي فيكم مع هدايا له ولرجاله لعلّه يعطيكم مَن عنده فتقتلونهم بقتلى بدر .فبعث كفار قريش عمرو بن العاص ،وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا .فخرجا حتى قدما على النجاشي ،فأهَدوا إلى البطارقة مما معهما من الهدايا ،وطلبوا منهم أن يساعدوهما عند الملك بأن يسلّمهما أولئك المهاجرين .ثم قابلا النجاشي وقدّما له هداياهما فقبلها منهما .ثم كلماه فقالا له: أيها الملك ،قد جاء إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ،ولم يدخلوا في دينك ،وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت .وقد بعثنا من آبائهم وأعمامهم أشرافُ قومه لتردهم إليهم .فقالت بطارقته حوله: صدَقا أيها الملك ،فأسلمْهُم إليهما .فغضب النجاشي ثم قال: لا واللهِ لا أُسلمهم حتى أدعوَهم ،فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم .ثم أرسَل إليهم .فلما جاؤوا ،قال لهم النجاشي وأساقفته: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ،ولا في دين أحد ؟
فقام جعفر بن أبي طالب ،فقال: أيها الملك ،كنا قوماً أهلَ جاهلية ،نعبد الأصنام ،ونأكل الميتة ،ونأتي الفواحش ،ونقطع الأرحام ،ونسيء الجوار ،ويأكل القويُّ منا الضعيف .وظللنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا ،نعرف نسبه وصدقه وعفافه ،فدعانا إلى الله ،أن نوحّده ونعبده ،ونخلع ما كنّا نعبد قبله من الحجارة والأوثان .ولقد أمرَنا بصِدق الحديث ،وأداء الأمانة ،وصلة الرحم وحسن الجوار ،والكف عن المحارم والدماء .كما نهانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكلِ مال اليتيم ،وقذف المحصنات .أمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .فصدّقناه وآمّنا به ،واتّبعناه على ما جاء به من الله ...
فعدا علينا قومُنا فعذّبونا ،وفتنونا عن ديننا لنرتدّ إلى عبادة الأوثان ...فلمّا قهرونا وضيقوا علينا ،خرجنا إلى بلادك ،ورغبنا في جوارك .
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به من الله من شيء ؟قال جعفر: نعم أول سورة مريم .قالت أم سلمة: فبكى والله النجاشي ،حتى اخضلّت لحيته .وبكت أساقفته حين سمعوا ما تلا جعفر .ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .انطلِقا ،فوالله لا أسلّمهم إليكما .الخ القصة .
فهذه القصة من أسباب نزول هذه الآيات .فبعد أن حاجّ اللهُ تعالى أهل الكتاب ،وذكر مخالفتهم لكتبهم وأنبيائهم ،وأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعبا ،وبلغت الجرأة باليهود أن يتطاولوا على الله بقولهم{يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} ،وأن النصارى اعتقدوا بأن المسيح ابن الله ،ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ،أو محبتهم لهم .ومقدار تلك العداوة أو المحبة:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ}
قسَمَاً أيها الرسول ،لسوف تجد أشد الناس عداوة لك وللمؤمنين معك ،اليهودَ والمشركين من عبدة الأصنام .وقد وقع ذلك .فإن أشد إيذاء واجهه النبي عليه السلام إنما كان من اليهود في المدينة وما حولها ،ومن مشركي العرب ،ولا سيما قريش .
ويشترك اليهود والمشركون في بعض الصفات والأخلاق ،كالتكبّر والغرور ،وحب المادّة ،والقسوة .والمعروف عن اليهود أنهم يعتبرون كل من عداهم لا حرمة له ولا قيمة ،فكل مَن كان غير يهودي مباح لهم دمه وماله وعرضه ،هذا مقرَّر في تلمودهم .
{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى}
أما أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدّقوك فهم النصارى .رأى النبي من نصارى الحبشة أحسن المودة .ولما أرسل كتبه إلى الملوك ورؤساء الدول كان النصارى منهم أحسنَ ردا ،واستقبالاً للرسل .والواقع أن مودة النصارى للمسلمين في عصر النبي الكريم كانت ظاهرة ملموسة .
{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ...}
وسببُ تلك المودّة أن فيهم قسيسين يعلّمون دينهم ،ورهبانا يخشون ربهم .هذا كما أنهم لا يستكبرون عن سماع الحق واتّباعه .