/ت77
تعليق على جملة
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى هذه الجملة .منها أنها بمعنى أنه ما من ذنب يذنبه المسلمون إلا جعل الله لهم منه مخرجا من توبة أو كفّارة .ومنها أن ذلك في هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليهم وأمثال ذلك .ومنها أن الله قد جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيّقا بصورة عامة .ومنها ما جعله الله من رخص للمسلمين في العبادات وغيرها عند الضرورات .ومنها إيذان بأن الله قد رفع عنهم ما وضعه على بني إسرائيل من تكاليف فيها مشقة وحرج .والجملة تتحمّل كل هذه الأقوال حيث يبدو بذلك ما لها من خطورة بالغة تستدعي التنويه من حيث إنها تتضمن تقرير كون الله عز وجل قد يسّر على المسلمين الأمور فلم يحملهم في دينهم ما لا يطيقون ولم يجعل عليهم فيه إعناتا وشدّة وجعل لهم فيه لكلّ ضيق فرجا ولكل عسر يسراً .وهذا المعنى قد تكرر في سور عديدة بحيث يصحّ أن يقال إنه مما امتازت به الشريعة الإسلامية عما قبلها .وقد أشير إلى هذا المعنى في آية سورة الأعراف هذه:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{157}} ومما يصح أن يذكر في صدد ذلك باب التنويه الذي فتحه الله على مصراعيه لكل الناس وفي كلّ حال على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان .ثم تحليل الأطعمة المحرّمة عند الاضطرار والرخص الكثيرة المتنوعة كالتيمم وصلاة الخوف وتحلّة اليمين .ثم إباحة الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق .وحصر المحظورات في الخبائث والفواحش والبغي والشرك والمنكرات من الأخلاق الشخصية والاجتماعية وإباحة كل عمل وتصرف للمسلم خارجا عن هذا النطاق .وقد أشير إلى ذلك في آيات سورة الأعراف [ 31-33 و42] وعلّقنا عليه تعليقا يغني عن التكرار .ولقد أراد فريق من المؤمنين المخلصين نبذ الطيبات التي أحلّها الله زهدا وتورّعا وتقرّبا إلى الله فنهاهم الله عن ذلك في آيات سورة المائدة هذه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ{87} وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ{88}} وقد كانوا تعاهدوا فيما بينهم وحلفوا فأنزل اللهالآية لإخراجهم من عهدة يمين حلفوها بتحريم ما أحلّ الله على أنفسهم ولو كان تورّعا وزهداً:{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{89}} وفي سورة البقرة آية قررت أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأن الإنسان لا يسأل إلا عما صدر منه فعلا .وعلّمت المسلمين الدعاء لله بعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من عمل مغاير لما أمر به بسائق النسيان والخطأ ،وبعدم تكليفهم تكاليف شديدة وإلزامهم بإلزامات محرجة كما كان شأن الذين من قبلهم وبعدم تحميلهم فوق طاقتهم وهي هذه:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{286}} .ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي حديثا في سياق هذه الآية وما قبلها ،يفيد أن الله عز وجل آذن المسلمين أنه يستجيب لهذا الدعاء الذي علّمهم إياه .والحديث مروي عن أبي هريرة قال: «لما نزلت آية{لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{284}} [ البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه ثم بركوا على الركب ،فقالوا: أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ،وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها{[1406]} .فقال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ،قالها مرّتين فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{285}} [ البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عز وجل:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة: 286] قال نعم{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} [ البقرة: 286] قال نعم{وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [ البقرة: 286] .قال نعم{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال نعم{[1407]} .وفي سورة البقرة في سياق آيات الصيام هذه الجملة{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [ 185] وفي سورة المائدة في سياق آيات الوضوء هذه الجملة{مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{6}} حيث يتساوق بذلك التلقين القرآني الجليل الذي انطوى في هذه الآية كما هو ظاهر .
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة وردت في كتب الأحاديث الصحيحة متصلة بمدى الجملة منها حديث رواه الشيخان جاء فيه «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا »{[1408]} .
وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ،فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم »{[1409]} .وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة جاء فيه: «عليكم بما تطيقون .فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه »{[1410]} .ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه: «ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار ؟قلت: إني أفعل ذلك .قال: فإنك إن فعلت ذلك هجمت عيناك ونفِهت نفسك ،ولعينك حق ،ولنفسك حق ولأهلك حق وقم ونم وصم وأفطر » .ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان جاء فيه{[1411]}: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة »{[1412]} .وحديث رواه ابن ماجة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »{[1413]} .وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها ما لم يتكلّموا أو يعملوا به »{[1414]} .وحديث رواه الإمام أحمد عن عروة الفقيمي قال: «جعل الناس يسألون رسول الله أعلينا حرج في كذا ؟فقال: أيها الناس إن دين الله عز وجل يسر قالها ثلاثا »{[1415]} .وحديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة جاء فيه: «قال رجل: إني مررت بغار محمد فحدثتني نفسي أن أقيم فيه وأتخلّى عن الدنيا ،فقال له رسول الله: «إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية لكن بعثت بالحنفية السمحة »{[1416]} .
وهكذا يكون التساوق تاما بين التلقين القرآني والتلقين النبوي ؛ويصبح المعنى الذي احتوته الجملة من المبادئ المحكمة في الإسلام .ولقد روي عن ابن زيد أحد علماء التابعين قوله في مدى الجملة: ( ما من ذنب يذنبه المسلمون إلا ولهم مخرج منه من توبة أو كفّارة ) .وعن ابن عباس تأويله لكلمة حرج بالضيق وقوله: ( إن مدى الجملة ينطبق على هلال شهر رمضان وذي الحجة إذا شك الناس فيه أو التبس عليهم أو أشباه ذلك ) .مما فيه صور تطبيقية وجيهة لمدى هذه الجملة .
تعليق على جملة{وافعلوا الخير}
كذلك فإن جملة{وافعلوا الخير} جديرة بالتنويه من حيث إنها تحث على فعل الخير انطلاقا .والخير هو كل عمل نافع ومفيد قولا وفعلا .والإطلاق يفيد الحثّ على عمل الخير في كل ظرف ولكل الناس بدون قيد وشرط مما فيه رائع التلقين .
ولقد تكرر ذلك في آيات عديدة مما يزيد الروعة .منها آية سورة البقرة هذه{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{148}} حيث انطوت على حث على التسابق إلى فعل الخير وآية سورة آل عمران هذه:{يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ{114}} حيث انطوت على التنويه بالمسارعين في الخيرات .ومنها آية آل عمران هذه:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{104}} وهذه الآية أقوى تلقينا حيث لا يكتفي فيها بالحث على فعل الخير بل توجب الدعوة إليه دائما مثل ما توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا لم يكن فئة من الناس في وقت من الأوقات لا يقومون بهذا الواجب أثم جميع المسلمين .
ولقد نددت آيات عديدة باللذين يمنعون الخير أو يشحّون عليه تنديدا شديدا .من ذلك آية سورة القلم هذه:{منّاع للخير معتدٍ أثِيم{12}} وآية سورة ( ق ) هذه:{منّاع للخير معتد مُّرِيب{25}} ،وهذه الجملة في آية من سورة الأحزاب{أشِحَّة على الخير} [ 19] حيث يبدو من هذا أن فعل الخير والدعوة إليه من أمّهات الأخلاق والمبادئ التي قررها القرآن وندّد بالذين يشحّون عليه أو يمنعونه .
وهناك أحاديث نبوية صحيحة كثيرة جدا في الحضّ على الصبر والعفو وتحمّل الأذى وقضاء حوائج الناس ونصر المظلوم والذبّ عن المسلمين وستر عوراتهم والصدق والوفاء والرفق والحياء والتواضع وحسن الخلق والمعاملة الحسنة مع الناس والسخاء والكرم والشكر على المعروف والنصح للناس والعدل ،وحبّ المسلم لأخيه ما يحبّه لنفسه والبرّ بالآباء والأقارب والضعفاء والمساكين واليتامى والجيران ،وغيرهما وغيرهما مما يدخل في شمول كلمة الخير ومما أوردنا منه أمثلة كثيرة في مناسبات سابقة ومما سنورد منه أمثلة أخرى في مناسبات آتية ،مما فيه تساوق مع التلقين القرآني .وهناك حديث عام في هذا الباب فيه حثّ على المساعدة على عمل الخير إذا لميستطع المرء أن يفعله بنفسه رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أُبْدِعَ بي فاحملني ،قال: لا أجد ما أحملك عليه ولكن ائت فلانا فلعلّه أن يحملك فأتاه فحمله فأتى النبي فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله »{[1417]} .