/م81
تعليق على الآية
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} .
ولقد تعددت الروايات المفسرين عن أهل التأويل في صدد الاختلاف الذي كان يمكن أن يجدوه في القرآن لو كان من عند غير الله .من ذلك: الخلط والتناقض فيما هو حق وما هو باطل ،وما هو خير وما هو شر ،وما هو صواب وما هو خطأ .ومن ذلك أنه التفاوت البياني حيث لا يأتي القرآن على وتيرة واحدة أو طبقة واحدة من البلاغة والفصاحة .ومن ذلك أنه التناقض في الأخبار والتقريرات الغيبية والكونية .ومن ذلك أنه التناقض في التحليل والتحريم والحل والإباحة .ومن ذلك أنه التناقض في المبادئ والمقاصد .وأكثر هذه الأقوال معزوة إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم .
ومع أن جميع هذه الأقوال واردة في صدد مدى الآية العام ،فإن الذي يتبادر لنا ونراه متسقا مع سياق الآيات السابقةوالآيتان جزء من السياق كما قلناأن المنافقين اتخذوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكف الأيدي عن القتال ثم فرضه والدعوة إليه ،وهذه ما أشير إليه في بعض الآيات السابقة حجة للقول بأن النبي متناقض في أوامره ونواهيه .فاحتوت الآية ما احتوته من رد وتحد على النحو الذي شرحناه بأسلوب قوي التقرير بأن ذلك هو الحق الذي لا يتحمل مراء .
ومع أن المتبادر أن ذلك التقرير متصل مباشرة بموضوع الكلام السابق على ما نبهنا عليه فإن الرد والتحدي جاءا بأسلوب عام مطلق ينطبقان ويشملان كل ما جاء في القرآن المكي والمدني على السواء إذا ما نظر فيه بتدبر وتفكر مرتفعين إلى مستوى سمو الهدف القرآني ومجردين عن الغرض والتعنت والرغبة في المراء واللعب بالألفاظ والتمحل في المسائل الوسائلية والمتشابهات ،حيث يجد المتدبر فيه بهذه الروح أن الأسس والمبادئ والأهداف والتقريرات والآيات المحكمات الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية متساوقة متطابقة تامة الانسجام والأحكام ليس بينها اختلاف وتناقض .وما قد يراه من تنوع وتبدل لا يعدو أن يكون أسلوبيا وصورا تطورية وخطوات تشريعية اقتضتها ظروف الدعوة وسيرها وظروف المجتمع الذي نزلت فيه لأول مرة ،واقتضتها كذلك أهداف التدعيم .وليس هذه مع ذلك متناقضة أو جامدة لتكون محل تطبيق في الظرف الذي نزلت فيه فقط وهي في الوقت نفسه متساوقة مع الأسس والأهداف والمبادئ .ومن الأمور الهامة في هذا الأمر وجوب اعتبار القرآن كلا متكاملا يوضح بعضه بعضا ويتمم بعضه بعضا ويعطف بعضه على بعض .والناظر فيه إذا استوعب كل ما فيه واجد لكل ما قد يبدو له موهما تفسيرا ،ولكل ما قد يبدو له ناقصا تتمة ،ولكل ما قد يثير الحيرة تأويلا ،ويلمس بالتالي المعجزة الكبرى التي فيها مصداق الآية الكريمة ولقد اهتممنا بهذه المسألة في مناسبات كثيرة مرت في السور التي سبق تفسيرها ففسرنا بعض الآيات ببعض وعطفنا بعضها على بعض وأتممنا بعضها ببعض فأثبتنا بالنصوص ما قررته الآية .ومن واجب المسلم على كل حال أن يؤمن بالآية .فإذا لم يستطع أن يستوعب القرآن ولم يتبين له تأويل لما قد يتوهمه أو ما يظنه مشكلا في إحدى الآيات فعليه أن يسأل أهل العلم المستوعبين أو يكل الأمر إلى الله تعالى ولا يجوز أن يظن أن في القرآن اختلافا وتناقضا .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة أوردناها في سياق تفسير آية المحكمات والمتشابهات في سورة آل عمران تذكر غضب رسول الله من الجدل القرآن وتنهى عن ضرب بعضه ببعض وتقرر أن الله إنما أنزله ليصدق بعضه بعضا وتأمر بإيكال ما لم يتبين لناظره الوجه الحق لتأويله وحكمته إلى الله تعالى .حيث ينطوي فيها تلقين نبوي يجب الالتزام به وتأييد لما قررناه آنفا .