ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون 102 وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين 103 وما تسئلهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين 104 وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون105 وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 106
هذه قصة نبي الله يوسف على السلام كان القطب الذي دارت عليه القصة تلك الشخصية العالية ، التي تغلبت عليها ، وقد بينا أنها ليست قصة غرام ، كما توهم ذلك بعض الذين خرجوا عن الإسلام بهذا الوهم الذي توهموا وبنوا عليه ما كفروا به ، فقد حققنا أن ما يتعلق بغرام امرأة العزيز به عليه السلام ، واستعصامه بأمر الله ونهيه لا يتجاوز ثماني آيات ، كانت فيها المفاضلة بين الفضيلة والرذيلة ، وإذا أضيف إليها إقرارها بأنها راودته عن نفسه تكون تسع آيات من إحدى عشرة آية .
وإن القصة- كما رأيت- صورت لك الغلام ينتقل من عز الأبوة الحرة الكريمة إلى الرق ، ثم من الرق والسجن ينتقل تحت عين الله تعالى وبصره إلى ملك مصر الذي كان يملكه فرعون وأصلح يوسف في الأرض ، ونمي الخير ، ودبر به أمر البلاد ، ولم يقل أنا ربكم الأعلى ، بل قال أنا عبد الله ، ولم يقل مفاخرا أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ، بل قال شاكرا{ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة} أنت لطيف لما تشاء ، وإذا كانت مصر قد اشتهرت بحكم الفراعنة والاستبداد ، فقد جاء حكم يوسف حكما صالحا ، ليثبت الله أن الإصلاح زرع طيب يربي النفوس ، ويقوي العزائم حتى في أرض فرعون الذي طغى وبغي وأكثر فيها الفساد .
والصورة فوق ذلك تصور كثرة أسباب الرق وفوضاه ، وتصور أسباب السجن ومظالمه ، وتصور الحال الاقتصادية في مصر ، والبلاد التي تجاورها ، وكيف كانت مصدر الرفد لمن حولها ، وغير ذلك مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى:{ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين7} ، الذين يبحثون عن حقائق الأمور ومآلاتها .
يقول تعالى:{ ذلك من أنباء الغيب} الإشارة إلى ما ذكر من أنباء كان يوسف قطبها ، والخطاب فيه للرسول ليكون ذلك المذكور من نبأ يوسف تسلية لابن عمه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، يتسلى به إذ يرجو النصر ، وإن كان الشرك هو الظاهر ، فهذا غلام ملقى في الجب ، ثم يباع ويشترى ، وتنكشف الأمور بعد سجنه عن ملك عادل يسوس أخصب أرض الشرق نماء وثروة ، إن من يحكم الأمور بتدبيرها ليس ببعيد عليه أن يخرجك من وسط بأساء قومك ، إلى عز الله تعالى:
{ من أنباء الغيب نوحيه إليك} ، الأنباء جمع نبأ ، وهو الخبر الخطير ذو الشأن ،و{ الغيب} أي متلبسا الغيب ؛ لأنه غائب عنك ، وعن قومك ، وما كان ليعلمه أحد من قومك ، لأن أحداثه ليست في بلاد العرب ، وما كانت في أرض مجاورة لبلاد العرب ، بل في أرض غير مقاربة ، ولا في إقليم كالعرب ، بل في إقليم له تقاليد فرعونية طاغية ، يقول حاكمها ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ، فهو حاكم يفني الشعب في شخصه ، ولا يفني في شعبه ، يظلم ويسيطر ، ولا يعدل ولا يشاور .
وإذا كانت غيبا بعيدا عنك وعن العرب فهو وحي من الله{ نوحيه إليك} ، وقد أكد سبحانه أنه غيب عليه بقوله تعالى:{ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} وهذا فيه أمران:فيه استدلال على أنه بوحي من الله تعالى ، وفيه تصوير لحالهم ، وهم يمكرون ليغتصبوا أخاهم من أبيهم ،{ وما كنت لديهم} ، أي ما كنت عندهم حتى تعلم حالهم إذ تكون مختلطا بهم متعرفا أمرهم ،{ إذ أجمعوا} ، أي إذا عزموا أمرهم على رميه في غيابة الجب ، ويقال:أجمع أمره ، إذا اعتزم الأمر جازما من غير فكاك ، وهم يدبرون بمكر سيء على أخيهم ، وعلى أبيهم .
هذا أمر فيه عبرة ، وفيه بيان أن هذا القرآن ليس من عند محمد صلى الله تعالى وسلم:بل هو من عند الله علام الغيوب وكان عليهم أن يصدقوا به ، ولكن لا يرجى تصديقهم ، ولكن يرجى الغلب عليهم ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ، ولذا قال تعالى: