{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون106} .
{ أكثرهم} ، أي أكثر الناس ، وما المراد بالناس هنا ؟ أراد بهم العرب قبل ظهور الإسلام أم الناس أجمعون ؟ لا مانع من إرادة أحد العرضين أو إرادتهما معنى شمول الكلمة لكل ما تدل عليه من ناس عرب وعجم .
على الفرض الأول يكون في هذا النص السامي بيان حقيقة تاريخية تومئ إلى حكمة بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في العرب ابتداء ، وعموم دعوته من بين صفوفهم من بعد{. . . .الله أعلم حيث يجعل رسالته . . . .124}( الأنعام ) ذلك أن العرب من شعوب الأرض كانوا يعلمون الله ، ويؤمنون بأنه الخالق لكل شيء وأنه واحد في ذاته وصفاته ، ولكنهم مع ذلك يعبدون الأوثان مع الله سبحانه وتعالى ، وكانوا في تلبيتهم في الحج ، يجمعون بين الإيمان بالله الواحد الأحد وإشراك غيره معه ، ففي الصحيحين:أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم:لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك{[1341]} ، وفي صحيح مسلم:أن النبي صلى الله عليه وسلمن كان سمعهم قالوا لبيك اللهم لبيك ، قال عليه الصلاة والسلام:"قد قد"، أي حسب حسب لا يزيدون على هذا{[1342]} .
وإنهم كانوا في الشدة لا يستغيثون إلا بالله لعلمهم بأنه وحده الخالق المغيث ، ولكنهم يشركون به غيره في العبادة ، ولقد كانوا بهذا أقرب إلى التوحيد من غيرهم ، فليس على الداعي إلى الوحدانية إلا بطلان عبادتهم للأوثان وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فالله قريب من عباده{. . . .ادعوني أستجب لكم . . .60} ( غافر ) وما لهم عنده من شفعاء .
هذا على منطق أن الناس المراد بهم عرب الجاهلية ، وعلى الفرض الثاني والثالث يكون المعنى أن أكثر الناس تعتريهم حال إشراك مهما أخلصوا التوحيد لله تعالى ، فالأوهام تسيطر على الناس وقد تأدت بالوثنيين إلى عبادة الأوثان ، ولكنها بالنسبة لمن جاء بعدهم تأدت بهم إلى أوهام حول الأشخاص ، لم يعبدوها ولكن اعتقدوا فيهم قوى خفية ، وإن آمنوا بأنهم مخلوقات ، وأنهم بشر .
وإن أظهر ما يكون ذلك في الرقي ، روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خبر روته امرأته زينب قالت:كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى باب تنحنح كراهة أن يهجم على أمر يكرهه ، وإنه جاء ذات يوم ، فتنحنح ، وعندي عجوز ترقيني ، فأخلتها تحت السرير ، فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطا ، فقال:ما هذا الخيط ؟ ، قلت:خيط رقي لي فيه ، فقال:ان آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:"إن الرقي والتمائم شرك"{[1343]} .
ولقد كانت رقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الخالية من الشرك:"اذهب البأس رب الناس ، اشف وأنت الشاف ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما "{[1344]} .
وروى أن رقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بالمعوذتين:قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إله الناس إلى آخرها{[1345]} .
وفي الحق أن الأوهام التي تسيطر على الناس من ناحية الغيب دفعت النصارى إلى التثليث ، وهو شرك ، ودفعت المشركين من العرب إلى عبادة الأوثان .
والآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الحرص على التوحيد ، وتفويض الأمر إلى الله تعالى ، وأن يبعدوا عن الأوهام المضلة ، فلا يعتقدون في مخلوق أن فيه قوة تشفى ، أو تنفع ، فإن الأوهام أدت إلى الشرك في جاهلية العرب وأدت النصارى إلى التثليث ، ولا تزال الأوهام تسيطر عليهم حتى تأدت بهم الى عبادة الأحجار والصور والتماثل .
سبيل الله
قال تعالى: