وإن هذا الكتاب الحكيم الذي هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم نزل مقروءا ليبقى إلى يوم القيامة حجة خالدة ، ويحفظ في الأجيال بحفظ الله تعالى كما قال:{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( 9 )} [ الحجر] ، ولقد قال تعالى في نزول القرآن .
{ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( 106 )} .
{ قرآنا} مفعولا لفعل محذوف يناسب المقام ، ويبينه ما جاء بعده ، وتقديره ، ونزلنا قرآنا ، أي نزلنا كتابا مقروءا ، لا مكتوبا فقط ، ولقد علم الله محمدا صلى الله عليه وسلم طريق قراءته ، وهو ترتيله ، فقال تعالى:{ لا تحرك به لسانك لتعجل به ( 16 ) إن علينا جمعه وقرآنه ( 17 ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( 18 ) ثم إن علينا بيانه ( 19 )} [ القيامة] ، أي إن علينا أن تقرأ مرتلة مبينة ، كما قال تعالى:{ أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ( 4 )} [ المزمل] .
فالقرآن الكريم محفوظ بكل عباراته ، وكلماته وقراءاته ، وتلاوته ، ومنهاج هذه التلاوة ؛ لأن ذلك كله متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتر يعد العلم به علما ضروريا لا يرتاب فيه إلا كافر .
والتنكير في قوله تعالى:{ قرآنا} للتعظيم ، وليذهب العقل في عظمته كل مذهب ، ولأن المقصود وصفه بأنه مقروء غير مكتوب فقط ، بل هو محفوظ في الصدور قبل السطور ، وكان حفظه في الصدور حماية له من التحريف .
وقوله تعالى:{ فرقناه} فيها قراءة بالتخفيف ، وأخرى بتشديد الراء ، والمعنى واحد ، ومتلاق ، وهو أنه نزل مفرقا ، ولم ينزل دفعة واحدة ، بل نزل منجما نجما بعد نجم على حسب ما تقتضيه حكمته تعالى وإرادته فكان ينزل مع الحوادث ، وهي تشير إلى بيانه ، وليستطيع النبي وصحابته حفظه ، ولو نزل دفعة واحدة ما وجد من يكتبه ، لأنهم قوم أميون ، ولأن الكتابة قد يصيبها التحريف ، وما في الصدور لا يحرف ، ولا يصحف ، ولا يذهب حفظه كشأن الكتب السابقة التي حرفت ، ونسى النصارى واليهود حظا مما ذكروا به .
وذكر سبحانه السبب في نزوله مفرقا بقوله تعالى:{ لتقرأه على الناس على مكث} أي على تمهل وتطاول في المدة ، فيحفظوه حفظا بدل أن يلقوا بكتابته على رقاع أو قطع من مواد أخرى كما في الشجر ، وهكذا .
و{ مكث} تتضمن امتداد الزمن امتداد يمكثون فيه من قراءته وحفظه ، وتفهمه ، وتعريف غاياته ومراميه ، وكان الصحابة كلما جمعوا عدة آيات حفظا وترتيلا ، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن جملة معانيها إن كانوا لم يفهموها .
ثم قال تعالى:{ ونزلناه تنزيلا} ، أي نزلناه متدرجا منجما ، وأكد نزل بالمصدر ليعلموا أنه تنزل بمعانيه وألفاظه ، ولعل في هذا ردا على الذين افتروا الكذب ، وقالوا إنه نزل بمعناه ، والعبارة كيف نزل ، ولقد كذبوا في تلك وأعظموا الفرية ، وإن ذلك من افتراء الكفار عليه ، ووهن إيمان لعض من ينتسبون للإسلام .
هذا ما ساقاه الله تعالى لبيان مقام القرآن وسط آيات الله تعالى ، وأنه أعظم آيات الله تعالى في الدلالة على رسالة الرسول ، وأدومها ، وأتقاها ، وبين أن الآيات الحسية قد جاءت في أحوال كثيرة ، ولم تنتج إيمانا بل تبعها من الطغاة عتوا واستكبارا ، وتوالي المظالم