{ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( 76 )} .
كان كفار مكة يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ، فلقد آذوا أصحابه إيذاء بالغا ، حتى إن منهم من مات تحت حر العذاب كأم عمار بن ياسر وأبيه ، وحتى إن من هم من نطق بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، وقد هاجر منهم فرارا من الأذى إلى الحبشة طائفة من المؤمنين استنقاذا لإيمانهم وقد هاجروا مرتين ، والنبي صلى اله عليه وسلم ثابت في مكانه مقيم يشارك من لم يستطع السفر الأذى والمصابرة ، ولو خرج لضاقوا في أنفسهم ، واشتد بهم الألم بعدم من يشاركهم ، وهو قطب الدعوة .
رأى المشركون ذلك ورأوا أن يزيدوا في إيذائه ليزعجوه ويستفزوه ليخرج ، وبلغ ذلك أقصاه عندما هموا أو تثبيته أو إخراجه ، وإلى هذا يشير قوله تعالى:{ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} و ( إن ) هنا هي المخففة من الثقيلة كما هي في الآية السابقة في التلاوة ، واللام لام التوكيد فارقة بينها وبين ( إن ) النافية ، ومعنى استفز ، أي طلب الفز بألا يكون قرا ثابتا ، وهؤلاء طلبوا أن يفز النبي صلى الله عليه وسلم من الأرض بألا تكون مستقرا له يأمن فيها ويسكن حتى لا يبقى بها ؛ لأنهم علموا أنه لا محالة مضيع شركهم قاض على أوثانهم مزعج لهم فأزعجوه منها ليخرج ، والأرض هي أرض مكة ؛ لأنها المعهودة ، ف ( أل ) لعهد ، ولأنها الجديرة بأن تسمى الأرض الحرام ؛ لأنها الحرم الآمن الذي يجبى إليه ثمرات كل شيء ولأنها أم القرى ، إنهم يفعلون ذلك ليخرجوكم من أرض مكة ، ولكنه إن خرج فإنه يبتدئ زوال سلطانهم وهي تضطرب من تحتهم ، ولذا قال تعالى:{ وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} ، أي أنه نتيجة لخروجه من بينهم لن يستمروا بعده إلا زمنا فإن دولتهم تأخذ في الزوال ، وذلك بأحد أمرين:
الأمر الأول:أن يجد قوما غيرهم يستجيبون لدعوته وتكون له بهم قوة فيردون اعتداءاتهم ، وفتنهم وقد كان ذلك ، فإن الله تعالى أمره بالهجرة في ميقاتها عندما وجد من استجاب من أهل يثرب ، فكانوا هم ومن هاجروا قوة الإسلام استنصفوا منهم ، ثم زالت دولة الأوثان بعد ذلك ويئس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض .
الأمر الثاني:أن ينزل الله بهم ما أنزل بالذين آذوا أنبياءهم وأخرجوهم أو سدوا سبل الحق عليهم حتى يئسوا من أن يؤمنوا ، وقال الله لكل نبي منهم:{. . .لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . . .( 36 )} [ هود] ، فإنه ينزل عليهم من آياته خسفا ، أو زلزالا ، أو حاصبا ، أو ريحا صرصرا عاتية .