في شريعة محمد دواء النفس ونصر الحق
نحسب أن هذه الآيات كان قبيل الهجرة ، بل إن سورة الإسراء كلها كانت قبيل الهجرة ؛ إذ فيها الإسراء ، وقد كان قبيل الهجرة إيناسا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فقد عمه أبا طالب الذي كان يحميه ، وزوجه خديجة التي كانت السكن المواسية ، ولذا نقول:إن قوله تعالى:
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( 78 )} .
وإن الآيات السابقة تدل على ما كان يحاوله المشركون ليفتنوا المؤمنين في دينهم ، وتطاولوا فحسبوا أنهم يفتنون محمدا صلى الله عليه وسلم عما أوحى الله تعالى به إليه ، ثم أشار إلى ما كانوا يفعلونه لكيلا تكون له مكة مقاما ومستقرا ، بعد ذلك أمره بالصلاة مبينا أوقاتها له ولأمته ، فقال:{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} والصلاة فيها ابتلاء النفس بالقوة لأنها انصراف ولجوء إلى الله تعالى واستحضار ذاته العلية ، والصلاة هي ركن الإيمان السديد ، ولقد قال تعالى:{ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( 97 ) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( 98 )} [ الحجر] ، ويقول تعالى:{ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ( 130 )} [ طه] ،
فكان الأمر بالصلاة والإشارة إلى أوقاتها ؛ لأنها مادة الصبر والإيمان وفيها أعلى درجات السلوان عن متاعب الحياة ولأوائها .
اللام في قوله تعالى:{ لدلوك} للتوقيت ، كما تقول في توقيت أعمالك أو الحوادث كان هذا لخمس خلون من جمادى أو نحو ذلك ، ويصح أن تكون للتعليل ، أي أقم الصلاة لأجل دخول وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل . . . ولهذا يقول علماء الأصول:إن الوقت سبب وجوب الصلاة ، من حيث إن الصلاة لا تجب إلا بدخوله .
وإقامة الصلاة التي هي مصدر أقام ، و{ أقم} معناها أداؤها مقومة مستقيمة مستوفية الأركان الظاهرة ، من قيام وركوع وسجود وقراءة ودعاء وأركانها الباطنة من خشوع واستحضار لمعانيها ، ومعاني قراءتها وأدعيتها حتى تكون كلها ذكرا له تعالى ، وهو لب معناها .
و ( دلوك الشمس ) معناه ميلا من وقت زوالها ، وكونها في كبد السماء إلى غسق الليل ، وبهذا تشمل آيات الأوقات كلها ؛ لأنها شملت الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غسق الليل ، والفجر في قوله تعالى:{ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} .
وفسر بعض الصحابة الدلوك بالغروب لأنه نهاية ميل الشمس ؛ إذ تختفى . ومن فسر الدلوك بميلها في الزوال ، فسرها بابتدائه ، وقال المارودي:من جعل الدلوك اسما لغروبها ، فلأن الإنسان يدلك عينيه براحتيه لتبينها حالة الغروب ، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها .
ونرى أن تفسير الدلوك بميلها وقت الزوال هو الأوضح ؛ لأن الآية بهذا التفسير تشمل كل أوقات الصلاة ، ولأن ( دلك ) معناها ( مال ) . جاء في تفسير البيضاوي ما نصه:"وأصل التركيب للانتقال ، ومنه الدلك فإن الدالك لا تستقر يده وكذا كل ما تركب من الدال واللام كدلج ، ودلح ، ودلع ، ودلف".
وقوله تعالى:{ أقم الصلاة لدلوك الشمس} ، أي ميلها من الزوال شيئا فشيئا ، فيكون الظهر ثم يشتد الميل فيكون العصر ، واتساع الميل علامته طول كل الأشياء ، ويكون العصر ، ثم تغيب وينقطع الميل فيكون المغرب وتختفي الشمس وآثارها ، فيكون غسق الليل وهو اجتماع ظلمته ، وذهاب كل شفق ينير ، فيكون العشاء ثم نبه سبحانه وتعالى إلى الفجر وصلاته ، فقال:{ وقرآن الفجر} صلاة الفجر بقوله:{ وقرآن الفجر} ؛ لأن القراءة ركنها ولأنه يجب أن يكون الجهر بها ، ولأنه يندب أن تكون القراءة فيها بطوال السور أو ببعضها ،ولأن القرآن فيها مشهود مستحسن ، وقوله تعالى:{ إن قرآن الفجر كان مشهودا} ، أي تشهده الملائكة إذا لم تدرن النفس بعوجاء الحياة ، واختلافات الأهواء والمنازع ؛ ولأن الفجر ينبغي أن يؤدى في جماعة ، ويجب أن يشهده أكثر المؤمنين القريبين من المسجد ، ولأنه أول ما تستقبل به الحياة ، ويصح أن نقول:إن{ مشهودا} كناية عن رفعته ومقامه عند الله وعند المؤمنين ، وهذه الأوقات تتلاقى مع قوله تعالى في سورة الروم المكية:{ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( 17 ) وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( 18 )} [ الروم] .