وقد ذكر سبحانه ركن الخسارة وقوامها فقال عز من قائل:{ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا 104} .
{ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} ، أي كان عملهم ضلال في ضلال ، ووصف العمل بأنه ضلال مع أن الضلال في العامل مبالغة في الضلال ، كأنه بضلال النفس انتقل الضلال إلى العمل ، للإشارة إلى أن العمل يكون ضلالا بضلال النفس ، وفساد القصد ، وقال:{ سعيهم} ولم يقل ( عملهم ) ، للإشارة إلى أن كل جهد يبذلونه يكون جهدا في ضلال فلا يكون فيه خيرا أبدا .
ومع هذا لا يعتقد أنه ضلال بل يحسبه رشادا ، ولذا قال:{ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ، أي أنهم بضلال الفعل وضلال الفكر ، يفعلون الشر ، ويظنون أنهم يفعلون الخير فانقلب تفكيرهم فحسب الشر خيرا ، وذلك أشد الضلال إذ يطغى الضلال على تفكيرهم ، فينشئه بالباطل ويحسب بالباطل حقا ، والحق باطلا ، وهذا أشد الضلال ويحسبون ، أي يظنون أن ما يفعلونه هو الحسن ، و{ صنعا} حال من فاعل{ يحسبون} وهي حال مؤكدة لحسن ما يفعلون بزعمهم .
وإن هذا النص ينطبق على المشركين ، لأنهم يعبدون الأوثان ويحسبون أن عبادتها صنع حسنى إذ يتوهمون فيها قوى تعبد ، ويرون الخير في إتباع آبائهم ، وينطبق على رهبان النصارى إذ ينقطعون للعبادة في زعمهم ولا يقيمون للحياة أي اعتبار ، وقيل إنها تنطبق على الخوارج الذين كانوا يستبيحون دماء المؤمنين ، ولكن قوله تعالى:{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} ، وإن الخوارج لا ينطبق عليهم أنهم كفروا بربهم ، لأنهم يؤمنون بربهم ولكن ضلوا مع إخوانهم المؤمنين ، ولقد قال فيهم علي:( لا تقاتلوهم بعدي ، فإن من طلب الحق فأخطأ ليس كمن طلب الباطل فأصابه ) .