استمرا في سيرهما مراقبين لأعمال العباد ، فقال تعالى:
{ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامهم قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا 77} .
سارا منطلقين إلى الغاية التي أرادها موسى من العبد الصالح ، لأن الله أتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما ،{ حتى إذا أتيا أهل قرية} ، وإن الذي يسير لا يأتي أهل القرية أولا ، أنما يأتي القرية أولا بمبانيها ، وطرقها ، ويتعرف أهلها ، ولكنه ذكر الأهل أولا – لأنهم لهم شأن في هذا اللقاء وهو اللؤم ، وفساد النفس كما يبدو مما يأتي:{ استطعما أهلها} ، أي فور اللقاء معهم طلبوا الطعام ، فالسين والتاء للطلب ، طلبا الطعام ، لأنهما كانا في جوع شديد ، وألأم القرى الذين لا يقرون الضيف ولا يطعمون ابن السبيل الذي يكون في مكان قد انقطع عنه زاده ، وإن كان غنيا في مكانه ، فأجابوهما عن الاستطعام بالامتناع ، ولذا قال تعالى:{ فأبوا أن يضيفوهما} والتّضيّف طلب الضيافة بشدة الحاجة ، وردّها بشدّة مع ظهور الحاجة ، وهل يكون ظهورا أشد من الاستطعام وكان تكرار ذكر أهلها للدلالة على لؤم القوم ، وفساد المروءة .
ومع ما بدا عليه أهل القرية من بخل رأى جدارا آيلا للسقوط فأقامه ، ولذا قال تعالى:{ فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} ، أي أن موسى والعبد الصالح وجدا جدارا قد تداعى للانهيار أو آل للسقوط فأقامه مع أهلها ، وقد عبر الله تعالى عن الأيلولة للسقوط بقوله سبحانه:{ يريد أن ينقض} ، أي ينهار والإرادة هنا تعبير مجازي ، فقد شبه الجدار الذي مال للسقوط بإنسان له إرادة ، وأراد أن يقع ، وينقض تجريد للإجازة ، لأنه وصف يناسب المشبه ، ولقد أفاض الزمخشري بباعه الطويل في البلاغة في هذا المجاز فقال:{ يريد أن ينقض} استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ، كما استعير الهم والعزم . . . .قال حسان:
إن دهرا يلف شملى بحمللزمان يهم بالإحسان
وسمعت من يقول:عزم السراج أن يطفأ ، وقول الله تعالى:{. . .قالتا أتينا طائعين 11} ( فصلت ) .
وقد ضرب على ذلك أمثلة كثيرة ، لقد أخبرنا الله تعالى أنه أقامه ، ولكن لم يبين لنا سبحانه كيف أقامه ، أهدمه ثم أقامه من جديد ؟ أم أقام أعمدة سندته أم رم ما فيه من ثغرات ؟ ، لم يبين القرآن ذلك ، ولا تستطيع معرفته بروايات من غير القرآن إلا أن تكون سنة نبوية ثبتت بسند صحيح ، لا مرية فيه ، ولا وهن ، وإن كنا نميل إلى أنه هدمه وبناه ، كما سيبين في أنه كان لغلامين يتيمين ، وكان تحته كنز لهما .
والأمر أثار استغراب كليم الله تعالى موسى لأنهم أنذال ، وكلف نفسه إقامة جدار أراد أن ينقض ، ولذا قال لصاحبه:{ لو شئت لاتخذت عليه أجرا} ، أي أنه عمل نافع لقوم لئام يستحق أجرة وهما في حاجة إليها ، وقوله تعالى:{ لو شئت} ، أي يمكنك أن تأخذ عليه أجرا لو أردت ، وهذا بلا ريب اعتراض وإن كان خفيفا ، لأنه لم يقل أمر إمر ، ولا أمر نكر ، ومهما يكن فإنه لا يخلو من اعتراض ولوم ورغبة في أن يأخذ أجرا