بعد ذلك أجاب عن الجدار ، ولماذا أقامه ؟
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أي يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا 82} .
الغلامان كانا صغيرين كما يدل على ذلك وصفهما باليتيم ، فإنه لا يتم بعد البلوغ إلا أن تكون آفة في العقل أو النفس ، واللفظ يطلق على ظاهر ما لم يقم دليل بوجوب تحويله عن الحقيقة إلى المجاز ، وإطلاق اليتيم على البالغ مجاز ، ولقد قال ابن عباس في هذا المجاز يتيم ما لم يرشد ولو بلغ الأربعين ، ولكن ذلك مجازا لا حقيقة .
{ وكان أبوهما صالحا} الأب هو الأب القريب ، لأنه لا يكون يتيما إلا إذا كان قد فقد الأب القريب ، ولا يكون الصلاح ممتدا إلى الأبناء كما تشير الآية إلا إذا كان الولد صبيا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:( صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له ){[1457]}فصلاح الأبناء ينسحب خيرا للآباء ، وكذلك صلاح الآباء .
وكان تحت هذا الجدار كنز لهما ، ورثاه عن أبيهما الصالح فيما يظهر ، والكنز المال الكثير المدفون في باطن الأرض بدفن الإنسان ، وهذا الكنز مضيع إن لم يستخرج ، وقد أراد الله تعالى أن يستخرج كنزهما ، وهذا قوله تعالى:{ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} ، والأشد هو القوة ، وقد شرحنا اشتقاقه ، أي أن يبلغا قوتهما في الجسم والعقل ، والرشد في التعامل{ ويستخرجا كنزهما} ، واستخراج الكنز طلب إخراجه ، والعمل على ذلك منهما أو من غيرهما ممن له صلة بهما ، فالسين والتاء للطلب ، وذكر إرادة الله دون إرادته هو ، وإن كانت إرادته تابعة لإرادة الله سبحانه وتعالى ، لأن هذه الإرادة الإلهية متعقلة بأمر في المستقبل يتصل بالتكوين وهو بلوغ الأشد ، وأن يحصلا على كنزهما بعد محاولة استخراجه ببذل ما يبذل في سبيل ذلك عادة{ رحمة من ربك} ، أي لأجل الرحمة من ربك الذي هو الحي القيوم الذي يرب الوجود جميعا ، أحياء وغير أحياء .
وهنا نجد أن إقامة الجدار كان لأجل استخراج الكنز ، وإن ذلك لا يتم فيما يظهر إلا بهدم الجدار أولا ليظهر ما تحته من كنز ، ثم إقامته من جديد بعد كشف ما تحته .
ثم أشار العبد الصالح إلى أن ذلك بأمر الله وتكليفه فقال:{ وما فعلته عن أمري} ، أي ما فعلته صادرا عن أمري ، بل منفذا أمر الله ، وليس لأحد أن يعترض على أمر الله تعالى:{ ذلك تأويل ما لم يستطع عليه صبرا} ، أصلها ما لم تستطع صبرا عليه ، حذفت التاء تخفيفا في النطق إذ يصعب النطق بالتاء التي يعقبها الطاء لتقاربهما في المخرج ، ولم تحذف في{ لن تستطيع} ، لأنها متحركات بخلافها هنا فالأولى مفتوحة والثانية ساكنة ، الإشارة إلى معرفة المآل في سر خرق السفينة وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، وإن ذلك من أمر الله تعالى ، لأنه يتعلق بالغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله ومن يتكلم عن الغيب إنما يأخذ من علم الله الذي علمه بعض عباده الصالحين .
العبرة في هذه القصة
أجمعت كل الصحاح على أن العبد الصالح هو الخضر ، ويلاحظ أن القرآن الكريم ذكر أقواله ومجاوباته مع كليم الله موسى عليهما السلام ولم يذكر عن شخصه إلا أنه عبد من عباد الله آتاه رحمة ، وعلمه من لدنه علما ، فإذا ثبت في الصحاح أن اسمه الخضر ، وهو من الخضرة والنضرة نقبله غير معترضين ، ولكن راضين خاضعين مذعنين ، والعبرة في القصة بمعانيها ، ولا مشادة في الاسم بالنسبة لها .
وإن القرآن الكريم ذكرت فيه على أنها قصة قد وقعت ومجاوبات قد قامت بين موسى ، والعبد الصالح فهي واقعة صادقة ، ولا مساغ لتفسير بغير أنها خبر قد وقع وثبت .
ولكن قد أثير كلام حوله رؤية الخضر أكان مرئيا بالعيان كما ترى الأشخاص ، أم أنه كان مرئيا فقط لموسى عليه السلام ، وأنه لم ير وهو يخرق السفينة إلا لموسى فقط ، ولم ير وهو يقتل الغلام إلا موسى ،وكذلك عندما أقام الجدار ، ولو أنه رؤى وهو يقتل الغلام لطارده الناس وما تركوه ، وكذلك الجدار فإنه يحتاج إلى هدم وإقامة ، وينظر الناس إليه وهو يهدم ويبني ، ويظهر الكنز ، وكل هذا يحتاج إلى زمن طويل يكون مرئيا في للناس .
وإني أميل إلى أن الرؤية كانت خاصة بموسى عليه السلام ، كما يشاهد الأنبياء الملائكة ، ومع ميلنا لهذا نقول:( إن اللقاء الأول كان مرئيا فيه لموسى ولغيره ، لأن الله يسند فيه الرؤية لموسى ولفتاه ) ، فيقول الله تعالى:{ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا من لدنا علما 65} .
ولعل السبب في أن الفتى لم يذكر له خبر في مسألة السفينة والغلام والجدار وكان يذكر الحديث عن اثنين فقط هما موسى والخضر ، ولا يهمنا أين تركه وفي أي مكان افترق عنه فتاه .
وإن القصة تضمن معنى جليلا ، وهو أن علم الغيب هو علم الله الذي اختص به سبحانه يعلمه من يشاء ، وأن طاقة الإنسان الفكرية لا تكون إلا في ظواهر الأعمال ، والنتائج التي تكون ثمرة الأسباب الظاهرة ، فعلينا أن نسير لا تنتج بذاتها ، إنما ينتج بإرادة الله تعالى ، وبمقتضى علمه المكنون الذي أحاط بكل شيء علما ؛ ولذا أمرنا بعد اتخاذ الأسباب أن نتوكل على الله تعالى ، مفوضين الأمور إليه ، ولذا يقول الله تعالى:{. . .وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله . . . 159}( آل عمران ) .
وأن ما يجريه الله تعالى معنا ربما لا يتفق مع ما نرغب ، ولكن قد يكون ما غيبه الله تعالى خيرا لنا ، كما رأينا في خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار فإنه في هذه الأمور كان خرق السفينة الذي هو عمل الله تعالى سخر له عبدا صالحا من عباده خفي أمره على الناس .
ومن الفوائد التي اشتملت عليها الآيات أن رحمة الله تعالى تعم دائما ولا تخص ، وأن رحمته تكون على الضعفاء ، فقد قدر سبحانه وتعالى أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر ، فقرر أن تخرق لتكون معيبة ، فلا يأخذها الذي يأخذ كل سفينة غصبا ، وهذه من رحمة الله تعالى بالمساكين الذين يعملون في البحر صائدين أو ناقلين لما ينفع الناس .
وإن قدر الله تعالى يجري على بقاء الصالح ، وفناء غير الصالح ، ولذا قتل الخضر والغلام الذي خشي أن يرهق أبويه الصالحين طغيانا ويبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما .
وفي القصة من الآداب الإنسانية ، والأخلاق العالية الكثير ، فنرى أنه يجب على الإنسان أن يطلب العلم ، وأن يبذل الجهد في طلبه غير مدّخر في ذلك جهدا ، فهذا موسى عليه السلام يسير في طلب العلم حتى يلقى النصب .
وفي القصة أيضا ما يجب من ألا يجعل الاستغراب أساسا للحكم على الأشياء فقد يكون الأمر المستغرب أصدق الأمور ، وأقربها إلى الحق وأحسنها مآلا ، كما رأينا في السفينة وفي الجدار فلا يرد الأمر لأنه غريب ، ولكن يرد لضرره ، أو لأن مآله ضر . وفيها أيضا ، ما يجب من تطامن طالب العلم لمن يعلمه ، كما رأينا في تطامن موسى عليه السلام للعبد الصالح .
وإن السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لوحظ فيها احتمال الضررين بدفع أخفهما ، وقد لوحظ ذلك في السفينة وقتل الغلام فقد خرقت السفينة لمصلحة العاملين في البحر ، ودفع الاغتصاب ، وكذلك قتل الغلام لنفع أشمل ، وإقامة الجدار فيه نفع كثير بتحمل ضرر قليل ، وذلك أصل مقرر في الشرع يؤخذ به إذا لم يكن نص .