ولذا قال تعالى موجها الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ملتفتا إليهم ، وهم يشملون الوثنيين واليهود فهم جميعا أمة محمد فقد أرسل إلى الناس كما قال تعالى:{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 28 )} [ سبأ] .
{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أم للإضراب عن الكلام السابق إضرابا لفظيا ، مؤداه علمتم أن الله على كل شيء قدير ، وعلمتم أن الله تعالى له ملك السموات والأرض ، وأنه يصرف الآيات لرسله الكرام فيختار لكل رسول آية ، ولا يستبعد أن تكون تلك الآيات كلها على نسق هذه الآية لمن يجيء بعده ، والله يصرف دلائله وآياته .
أتريدون يا من تخاطبون برسالة محمد أن تسألوا رسولكم آية دالة على رسالته ، كما سأل اليهود موسى من قبل ؟ ، أي أتريدون أن تختاروا معجزة دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما سئل موسى من قبل ؟ .
والاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، أي أنه كان ممن خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ممن سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء يحمله ملك ، ومنهم من سأل أن يكون المبعوث ملكا ولا يكون رجلا يمشي في الأسواق ، كان ذلك من المشركين ، ومن أهل الكتاب ، وقد قال تعالى في سؤال أهل الكتاب:{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( 153 )} [ النساء] .
والمخاطبون في قوله تعالى:{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم} هم الذين خوطبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم الناس جميعا ، مشركوهم وأهل الكتاب فيهم ، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم للأحمر والأسود والذين طلبوا تغيير المعجزة المحمدية بغيرها من المعجزات الحسية كان منهم المشركون واليهود فهم أخص من بعث إليهم بالخطاب .
وقوله تعالى:{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم} إلى آخره فيه الاستفهام متجه إلى إرادة السؤال نفسه ، وإذا كان الاستنكار للإرادة فهو للسؤال أشد لأنه إذا استنكرت ذات الإرادة ، فالأولى يكون للفعل ، وإنهم ما أرادوا المشابهة بين فعلهم وفعل بني إسرائيل من قبل ، إنما نبههم الله تعالى إلى المماثلة بقوله:{ كما سئل موسى من قبل} ، أي مثل ما سئل موسى من قبل .
وإن ذلك انحراف عن السبيل ، وترك للحق ، وانصراف عما يوجبه الدليل إلى سؤال عن دليل آخر مع سلامة هذا الدليل الذي يعترضون عليه ؛ ولذا قال تعالى:{ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} أي ومن يجعل الإيمان في مقابل الكفر فقد سار في طريق منحرف ولم يسلك السبيل المستقيم ، وضل يعني بعد ، ومعنى ذلك أن من يطلب الكفر يترك سواء السبيل والقصد ، وفي ذلك إشارة إلى أمرين:
أولا – أنهم ضلوا القصد ولم يسلكوا سواء السبيل أي وسطه ؛ لأن وسط السبيل لا يكون اعوجاجا ولا انحرافا ، وأنهم إذا ضلوا سواء السبيل وبعدوا عنه سلكوا طريق الكفر ، واختاروه على الإيمان .
ثانيا – أن السبب في سلوكهم طريق الغي والضلال وطلبهم معجزات يريدونها هو أنهم في أصلهم جاحدون كافرون ، ومن ترك الطريق الواضح مع وضوحه وقيام برهانه فقد كفر ؛ لأنه يتبدل الكفر بالإيمان .