وإن العفو والصفح صفحا جميلا لا منة فيه ، يحتاج إلى رياضة نفسية وطهارة روحية وإلف اجتماعي ؛ ولذلك قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والصفح والأمر بالصلاة والزكاة وتقديم الخير رجاء من عند الله قال الله تعالى:{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} .
إقامة الصلاة أداؤها على الوجه الأكمل بأن يأتي بأركانها الظاهرة ، وأركانها الباطنة مقومة غير معوجة طيبة خارجة من القلوب ليست النفس منفصلة عما تقوم به الجوارح ، فإذا قال:"الله أكبر"شعر بعظمة الله وأحس برقابته ، وأنه دخل بالتكبير في ظل رحمته ، وأنه رقيب عليه وأنه يواجهه ، وأنه في حضرة منشئ هذا الوجود بما فيه من سماء وأرض وجبال ووهاد ، وأن نفسه في قبضة يده ، والوجود كله في قبضته ، وإنه بذلك يحس كأنه يرى الله لأنه في حضرته ، وبذلك يعلو عن الأحقاد وعن الحسد ، وعن كل ضغن وإحن ؛ ولذا قال تعالى:{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . . ( 45 )} [ العنكبوت] .
والزكاة تعاون إنساني ؛ لأنها معاونة القوي للضعيف وإعطاء الغني للفقير ، والربط بين الإنسان بالأخوة الجامعة والمحبة الراحمة والمودة الواصلة ، وعندها يزول الحسد ولا يتمنى أحد زوال نعمة أحد ، وعند ذلك يكون العفو الشامل والصفح الجميل ، ويدرك معنى قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل ، ويراه بقلبه عيانا .
وإن مع الأمر بالصلاة التي هي رمز للطهارة النفسية والائتلاف النفسي ، وإيتاء الزكاة التي تدل على الطهارة الجماعية والائتلافأمر سبحانه وتعالى بفعل الخير في شتى صوره ، وقال تعالى:{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} و"ما"هنا من أسماء الشرط ، وفعله تقدموا ، وجوابه تجدوه عند الله ، والنص الكريم حث على فعل الخير وبيان جزائه ؛ لأن جزاءه يجده عند الله أوفى مما قدم ، وأكثر مما فعل ، وقال تعالى:{ وما تقدموا لأنفسكم من خير} ونلاحظ ثلاثة أمور في كل واحدة إشارة بيانية ، وحكمة ربانية:
الإشارة الأولى – أن الله تعالى عبر عن فعل الخير سواء أكان لنفسه أم كان للجماعة بقوله:{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} لأن فعل الخير للجماعة فعل لنفسه ، والخير يعود على فاعله ابتداء ، ويعود على الجماعة انتهاء ، فمن تصدق فإنما يتصدق لنفسه ، لأن الفائدة إليه إذ يعيش في مجتمع متكافل غير متدابر ، ولتطيب بفعله القلوب وتسود المحبة الكامنة ، وكذلك كل فعل خير يكون لنفسه ، وهو يقدمه لنفسه أو يكون له ثوابه .
الإشارة الثانية – أنه يجد العمل قائما ثابتا عند الله ، فيكون مهيأ حاضرا يراه ويعاينه ، وذلك كناية عن جزائه الذي لا ينقص عنه ، بل قد يزيد عليه رحمة من الله تعالى ، ويراه عند الله محفوظا لا يضيع .
الإشارة الثالثة – تذييل الآية الكريمة بما يفيد علم الله تعالى بقوله تعالت كلماته:{ إن الله بما تعملون بصير} وهذه الجملة السامية تفيد علم الله الذي لا يخفى عليه خافية ، فلا يضيع عمل عامل منكم ، وقد أكد سبحانه وتعالى إحاطة علمه بما يظهر وما يخفى مؤكدات ثلاث:
أولها – إحاطته وسمو ذلك بالتعبير ب "ما"الدالة على العموم ، فإنها بمعنى الذي ، وهي تدل على العموم الشامل .
ثانيها – بالجملة الاسمية وتأكيد الجملة بأن وتقديم الجار والمجرور على بصير ، والتقديم دال على التخصيص .
وثالثها – التعبير عن العلم بالبصير ؛ فمعناه علم كأنه مبصور بالبصر ، يعلم الخفي الدقيق ، والجلي الواضح ، فلا يخفى عليه شيء من عمل الإنسان ويعلمه علم من يبصره .
ذكر سبحانه وتعالى حسد اليهود بالمدينة ، وكيف يداوي المؤمنون داء الحسد عند هؤلاء وهو بالعفو والصلح رجاء أن يقربوا بدل أن يستمروا على جفوتهم ونفرتهم ، حتى يكون اليأس من إدنائهم فيكون القصاص أو الإبعاد ، والله تعالى على كل شيء قدير .