ولقد بين سبحانه سبب حسدهم وهو غرورهم بأنهم أهل الجنة وحدهم فقال تعالى:{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم} .
الضمير يعود على أهل الكتاب في قوله تعالى:{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} والضمير في قوله تعالى:{ وقالوا} يتعين عودته على أهل الكتاب للقول نفسه ؛ لأن الذين قالوا هذا القول اليهود ، والنصارى وهم أهل الكتاب وهم الذين كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم .
والقول بالترتيب الجماعي فاليهود قالوا:لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، والنصارى قالوا:لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، وإلا فكل فريق لا يؤمن بالآخر فاليهود لا يعترفون بالنصرانية وهم الذين عادوا المسيح ، وحرضوا على قتله وإن كان الله تعالى قد نجاه من دسهم وشبه عليهم ، وقد دل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك:{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء . . . ( 113 )} [ البقرة] .
وهود قيل إنها هنا بمعنى يهود ، ولكنها بمعنى الجمع ؛ لأن "من"هنا لفظ يدل على الجمع فالجمع أنسب إليه ويكون جمعا لها كعوذ جمع لعائذ ، ولأنه مقابل لنصارى ونصارى جمع ، وإن قولهم هذا كذب نشأ من غرورهم وإغلاق قلوبهم على ما عندهم ، وما يتمنونه من أمان كاذبة إذ يتمنون ولا يعلمون ؛ ولذلك قال تعالى في تصوير حالهم:{ تلك أمانيهم} وهي جمع أمنية وهي على وزن أفعولة فأصلها أمنوية اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ، وقد ذكرنا ذلك من قبل ، أي أن هذا ما يتمنونه ، ولكن لماذا قال تلك أمانيهم ولم يقل أمنيتهم فذكر ذلك بلفظ الجمع "قالوا"؟:إذ الجمع يدل على أنه أمنية كل واحد بعينه فجمعت للدلالة على عموم التمني ؛ وذلك لأنهم يحكمون لأنفسهم بأمانيهم لا بأعمالهم بما يتمنونه لا بما يتخذونه لنيله الأسباب .
ولأن لفظ الجمع تأكيد لأن يكون هذا تمنيا لهم استجابة لغرورهم وأهوائهم ، وقد قال تعالى لبيان أنها أمان كاذبة ليس لها من سبب ولا دليل{ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} أقر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:هاتوا برهانكم ، ولم يقل سبحانه سنكل طلب البرهان إلينا ؛ لأن عالم الغيب والشهادة ، يعلم كذب ما يقولون وافتراءهم ، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنه ما يتمنونه لا ما يستحقون فلا يطلب الدليل من يعلم ؛ وقد فرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب لا ليقتنع ولكن ليبين كذبهم في ادعائهم .
طلب منهم أن يأتوا ببرهان ، والبرهان هو الدليل القاطع الملزم الذي لا يعتريه ريب . ولا شك أنه ليس عندهم دليل ظني أو قطعي من كتاب منزل أو قول نبي مرسل .
ولذلك قال سبحانه:{ إن كنتم صادقين} فجعل أداة التعليق الدالة على الشك ، وهي "إن"؛ إذ إنه لا دليل عندهم فهم غير صادقين .