ثم بين سبحانه وتعالى أن دخول الجنة بالإخلاص والعمل لا بالتمني الكاذب فقال تعالى:{ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} بلى حرف للجواب بالنفي كما أن نعم للجواب بالإيجاب ، وبلى تتضمن معنى الإضراب وهذا الكلام رد على المفترين الذين يتمنون الأماني الكاذبة فليست الجنة إلا جزاء المتقين ولا تكون للكذابين الجاحدين .
{ من أسلم وجهه لله وهو محسن} ومعنى أسلم وجهه لله تعالى أسلم نفسه كلها لله تعالى ، فتكون كل جوارحه وكل أحاسيسه وحركات قلبه خالصة لله تعالى خائفة منه خاضعة لكل ما يأمر وينهى ، وعبر بالوجه فإنه كثير ما يعبر به عن الذات كما قال تعالى:{ كل شيء هالك إلا وجهه . . . ( 88 )} [ القصص] ، ولأنه مظهر النفس ، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة وهو الذي يكون به السجود ومظاهر الطاعة والخضوع والاستجابة .
ولا يكون إسلام النفس إلا وهو معه الإحسان في الأعمال كلها ، فمعنى وهو محسن أنه يكون محسنا للناس في معاملتهم فيمدهم بالعون عند موجبه يعين الضعيف ويغيث الملهوف ، ويحمل الكل ، فلا يحسد الناس على ما آتاهم من خير ولا يكذب ولا يحقد ولا يمشي بنميم بين الناس ولا يتخذ السعاية سبيله ، ولا يقطع ما وصل الله ، ولا يفرق بين الأحبة ، هذا كله يشمله معنى الإحسان وهو لا يحصى في خصائصه ومزاياه . وجملة{ وهو محسن} حالية ومعناها أنه متلبس بالإحسان لا يصدر عنه غيره .
و{ من} من أسماء الشرط و{ أسلم وجهه لله وهو محسن} شرطه ، وجزاؤه قوله تعالى:{ فله أجره} ثواب ذلك الإحسان وإسلام الوجه لله تعالى ، أما الادعاء المغرور ، والتمني الكاذب فجزاؤه جهنم وبئس المصير ، وإنه لا خوف عليهم من عقاب ، ولا حزن يعتريهم من عمل أسلفوه .
ولذا قال تعالى:{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي أنهم لا يخافون حسابا ولا عقابا ولا يحزنون لأمر نالهم ، بل إن إخلاصهم لله ، وإحسانهم العمل لا يجعل للعقاب سبيلا لهم ، فهم في أمن الله لأنهم أطاعوه ، أما غيرهم فهم في غيهم وغرورهم يوم القيامة يخافون مما يستقبلهم ويحزنون على ما فاتهم .