سفك دمائهم وإخراجهم وأسرهم
إن اليهود قد أصابهم ما أصاب الأمم من تفكك في وحدتهم ، فكانوا يتسافكون دماءهم ويمالئ بعضهم جماعات أخرى بينهم وبينهم حرب ، فينضم فريق منهم إلى بعض المتقاتلين ، وآخرون إلى غيرهم فيقاتل بعضهم بعضا ، في ظل العدوين المتقاتلين ، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد بمنع سفك دمائهم ، وأخذ عليهم العهد بألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، ومع أن ذلك العهد حفظ لجميعهم وحقن لدمائهم ويفرض التعاون بينهم خالفوه .
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} كان الميثاق ألا يسفك بعضهم دماء بعض فلا يتقاتلوا ولا ينضموا إلى قوم يقاتلون أحدا منهم ، وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله:{ لا تسفكون دماءكم} بصيغة الخبر الدالة على النهي وعبر عن التقاتل بينهم بقوله:{ لا تسفكون دماءكم} فنسب السفك المنهي عنه إليهم للإشارة إلى الفعل ليعود على جميعهم بسفك الدماء ، وإهدار الأنفس ، لأنه إذا كان القاتل والمقتول من أسرة واحدة ، فقد قتلت نفسها ، وسفكت دمها وأهدرت أهلها .
ومنع سبحانه وتعالى أن يخرج بعضهم من دياره ، وعبر عن ذلك المنع بقوله تعالى:{ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فالخبر هنا بمعنى النهي عن ذلك ، والتعبير عن إخراج البعض بأنه إخراج لأنفسهم بيان الاجتماع على أن يكونوا أمة واحدة متآزرة بحيث تكون إصابة عضو منها إصابة لجميعها ، فإخراج بعضهم لبعض إخراج لكلهم إذ يفرق جمعهم ، ولأنه يطمع فيهم أعداءهم ، فيخرجهم جميعا ، فإخراج بعضهم يسهل إخراج كلهم .
وإن هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى عليهم وأقروا به وشهدوه ؛ ولذا قال تعالى موثقا ذلك الميثاق بقوله تعالى:{ ثم أقررتم وأنتم تشهدون( 84 )} أي أنتم الحاضرون أقررتم ما أخذ على أسلافكم من هذا الميثاق ، وأنتم تشهدون مؤمنين بصدقه .
وكان الخطاب في الإقرار والشهادة للذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم الذين نقضوا العهد ظاهرا ، وهم الذين سفكوا دماءهم ، وهم الذين أخرجوا فريقا منهم ، وإن كان الاحتمال بأن ذلك حصل من بعضهم في الماضي ليس ببعيد فقد تشابه في مخالفة الميثاق الخلف مع السلف ، وهم جميعا في إثم مبين ، وعدوان ظاهر .