وإذا كان ذلك الميثاق حفظا لوحدتهم ولجمهم فقد نقضوه ، وقتل بعضهم بعضا ، وأخرج فريق منهم الآخر من داره ، ولقد قال تعالى في ذلك:{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} العطف هنا بثم للبعد المعنوي بين الميثاق الذي أخذ عليهم وأقروه بألسنتهم وشهدوا عليه بقلوبهم ، وبين الحال التي وجدوا فيها من أنهم قتلوا أنفسهم بأن تقاتلوا فيما بينهم سواء أكان قتالهم لأنفسهم بأنفسهم ، أم كانوا قد انضم فريق إلى قوم عدو لقوم آخر وتقاتل الإسرائيليون مع أنفسهم في ظل آخرين ، وكان كل فريق من اليهود يعاون من يظاهره من أهل الشرك على قومه بالإثم والعدوان ، وفي ذلك سفك لدمائهم .
وإن ذلك التعاون مع آخرين متعادين اقتضى أن يخرج فريق منهم من ديارهم ، وذلك لأجل القتال الذي انضم فيه كل فريق من اليهود إلى فريق من المشركين المتقاتلين ؛ لذا قال تعالت كلماته:{ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} .
وروي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى:{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الآية:أنبأهم الله تعالى بذلك من قبل وقد حرم عليهم سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم مع الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حليفه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما ، ولا بعثا ولا قياما ولا كتابا .
وخلاصة هذه الرواية عن ابن عباس الذي سماه التابعون ترجمان القرآن:أن سفك اليهود لدمائهم كان في العصر القريب للهجرة عندما كانت الحرب مشبوبة بين الأوس والخزرج ، وكانوا على شفا حفرة من النار ، كما أخبر القرآن العزيز ، وأن اليهود لم يقفوا محايدين كما هو واجب الجوار بل تدخلوا ليوسعوا شقة الخلاف ويؤرثوا نيران الحرب لتستمر مستعرة فكان مع الخزرج بنو قينقاع ، وكانوا حلفاء لهم ، ومع الأوس النضير وقريظة ، فتقاتل الفريقان كل في صفه ، وأخرج كل فريق من داره ، فكان هذا نقضا للعهد الذي أقروه وصدقوه وشهدوه .
وعلى ذلك يكون الخطاب في قوله:{ ثم أنتم هؤلاء} لليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة إليهم ، وكانت الإشارة مع الخطاب لبيان الصفات القائمة فيهم ، فالمعنى أنتم ترون أنكم تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم .
ومن الغريب أنهم كانوا يتقاتلون غير متأثمين ، ولا متحرجين من أن يقتل بعضهم بعضا ، ويخرج فريق الآخر من داره ومع ذلك إذا وقع أحدهم في أسر من أي الفريقين فادوه ؛ ولذا قال تعالى:{ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} إنهم يظاهرون على إخوانهم بالإثم والعدوان ، ومع ذلك إذا جاءوكم مأسورين دفعتم فديتهم لتفكوا عانيهم ، للذين كانوا سببا في أسرهم ، وشدوا الوثاق عليهم ، فلو أن الفريق الذي تحاربون معه أسر أسرى من اليهود الذين يعاونون خصمه ، وجاء إليكم هِؤلاء الأسرى فإنكم تدفعون فديتهم لحليفكم الذي أسرهم ، وهذا غريب متناقض . . أولا:لأنكم جعلتموهم مقاتلين وسفكتم دماءهم وقتلتموهم فكيف تحمون حريتهم وأنتم الذين أخرجتموهم للقتال بسبب مناصرتكم لحلفائهم ، ومناصرتهم لحلفائهم ، ولذلك يقول تعالى تنديدا بحالهم وتناقضهم:{ وهو محرم عليكم إخراجهم} .
ومعنى:{ تفادوهم} أي تدفعون دياتهم ؛ لأن فدى يفادي تدل على أحد معنيين إما أخذ الفدية ممن يدفعها أو دفعها ، وتفسر هنا بمعنى دفعها ، لأنه المناسب للمقام من حيث وقوعهم في التناقض في أوامر دينهم وميثاقهم فهم قد أخرجوا إخوانهم للقتال ومع ذلك إذا وقعوا في الأسر قدموا فديتهم اعتمادا على نص عندهم يقول:( إذا رأيت أخاك الآخر مملوكا فأخرجه من رقه ) وبالتالي إذا رآه مأسورا أخرجه من أسره وإنه كان عليه ألا يكون سببا في إخراجه ، وإنه محرم عليه إخراجه فلا يكون سبب الرق لذا قال تعالى:{ وهو محرم عليكم إخراجهم} والحال والحكم الثابت المبين أنه محرم عليكم قبل ذلك ألا تخرجوهم فيكون ذلك سبب الأسر .
ولذلك قال تعالى مستنكرا حالهم:{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} الفاء للإفصاح عن شرط مقدر ، تقديره إذا كانت هذه حالكم فأنتم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ، والهمزة والاستفهام قدمت على الفاء لأن الاستفهام له الصدارة دائما .
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لأنهم بعملهم هذا يؤمنون ببعض الكتاب وهو تحريم البقاء على الأسر ، ويكفرون ببعضه الآخر ، وهو تحريم سفك دمهم ، وإخراجهم من ديارهم للقتال ، فهو استفهام لإنكار الواقع ، ولومهم عليه ، وبيان أنه تناقض في إيمانهم ينفذون ما يكون هواهم في تنفيذه ، ويجحدون بما لا يكون لهم هوى في تنفيذه فاتخذوا إلههم هواهم .
وإن هذا يؤدي إلى هوانهم وذلهم ووصفهم بالعار الدائم ؛ ولذا قال سبحانه{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} الخزي:الهوان والعار والذلة ، والفاء للترتيب ، فإن الأمر الذي يترتب على تسليم أنفسهم لسفك دمائهم وإخراجهم من ديارهم يترتب عليه خزيهم بتسليم أنفسهم ، وعار لخيانتهم لأقوامهم ، ووراء ذلك كله الذلة وهوان أمرهم بين الناس ، وإن ذلك جزاء مأخوذ من العمل في ذاته ، ولذلك بين القرآن الكريم أنه لا جزاء سواه ، وذلك بالنفي والإثبات بالاستثناء ، أي:أن الذين يفعلون ذلك الفعل لا جزاء لهم إلا العار والذلة والمهانة ، وإذا كان ذلك هو المتعين جزاء فهو من الفعل في ذاته ؛ ولذلك كانت الإشارة إليه في قوله:{ ذلك}إشارة أن الفعل ذاته هو العلة .
والحياة الدنيا هي الحياة الحاضرة ، وسميت الدنيا ، فهي مؤنث أدنى ؛ لأنها القريبة المرئية المحسوسة ، والحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي تكون سعادة دائمة ، أو شقوة مستمرة .
وإذا كان ذلك جزاء في الدنيا ، فجزاء الآخرة أشد وأبقى ؛ ولذلك قال تعالى:{ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} ويوم القيامة هو يوم الحساب والعقاب أو الثواب ، بعد البعث والنشور ، وقوله تعالى:{ يردون إلى أشد العذاب} يفيد بإشارة اللفظ إلى أنه مرجعه إلى عذاب سابق ، فالخزي عذاب دنيوي نتيجة لفعلهم ، وهذه هي الدفعة الأولى ، ويردون بعد ذلك إلى أخرى يوم القيامة فيها أشد العذاب وأنكله .
قد بين سبحانه وتعالى أن حسابهم عند الحكيم العليم الذي لا يخفى عليه شيء ، ولا يغفل عن شيء ؛ ولذا قال تعالى:{ وما الله بغافل عما تعملون( 85 )} نفى الله تعالى بهذا النص السامي نفيا مؤِكدا أن الله غافل عما يفعلون ، فإذا كانوا ينسون ما يفعلون من آثام لاستمرائهم لها ، واستمرارهم عليها ، فالله تعالى لا ينساها ، وقد أكد سبحانه نفي ذلك بالباء في قوله تعالى:{ بغافل} وبنفي وصف الغفلة عن ذاته العلية ، بأن الغفلة ليست من شئونه ، وقوله تعالى:{ عما تعملون} إشارة إلى إحصائه سبحانه وتعالى أعمالهم حال عملها وحال تلبسهم بآثامها .
تنبيه:هذه الآيات نزلت في بني إسرائيل ، والخطاب لهم ابتداء ، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها ، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء ، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لا تتداعى لبناته فيهوي ، و النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته:( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ){[93]} . وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته ، فقال:( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ){[94]} ، وقال صلى الله عليه وسلم:( المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه ){[95]} ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا ، وهو امتداد لعصور قبلنا من العصر العباسي إلى اليوم ، سفكنا دماءنا بأيدنا لهوى الملوك ، وفساد الحكام ، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لحية ، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه ، وصار بعضهم يغري أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين ، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء .
ولقد كانت الأرض الإسلامية تلتهم قطعة قطعة ، وفي المسلمين أقوياء لا يرون للدين حقا عليهم يوجب أن ينقذوا إخوانهم من المؤمنين ، فقد كان النصارى يعذبون المسلمين حتى أفنوهم فيها ، والأتراك من النظارة الذين ينظرون ولا يتحركون .
وجاء العصر الأخير ، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحارب المسلمين ، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم للمسلم ، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المقاتل العظيمة في المسلمين من رعيته ، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم ، وتذهب جماعات إسلامية ، وقتا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه ، ووجدنا من الملوك من يِؤيدونهم . . اللهم لا حول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قولك الحكيم:{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ( 85 )} .