وإن أولئك الذين يسفكون دماءهم ، ويخرجون أنفسهم من ديارهم باعوا آخرتهم بدنياهم ، وكانت الحياة الآخرة هي الثمن للدنيا التي اشتروها ؛ ولذلك قال تعالى:{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ( 86 )} الإشارة إلى الذين سفكوا دماءهم وأخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ونقضوا مواثيق الله التي جاءتهم بالأحكام التكليفية ، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تشير إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم الذي يقترن باسم الإشارة ، أي أن هؤلاء بسبب أوصافهم قد اشتروا الحياة الدنيا بثمن هو أغلى الأثمان ، وهو الآخرة ولكننا نجد أنهم خسروا في الدنيا ؛ لأنهم لحقهم الخزي والعار ، وفسدت نفوسهم ، حتى صارت كالقردة والخنازير ، وإن ذلك حق ، ولكنهم فهموا الدنيا متاعا يستمتعون به كالحيوان فاشتروا هذه الدنيا التي زعموها ، وتركوا الآخرة فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومع أنهم طلبوا الحياة وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا ، بل أخذوه ذليلا مهينا ، مصحوبا بالخزي ، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت ، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها ، قال الله تعالى فيهم:{ فلا يخفف عنهم العذاب} الفاء فاء الإفصاح التي تفيد ترتب ما بعدها على ما يفهم مما قبلها ، أي أنه بسبب تلك المبادلة الخاسرة التي خسروا فيها الآخرة لا يخفف الله تعالى عنهم العذاب الشديد الذي يستقبلهم؛ لأن أسباب التشديد من التقاطع والتنابذ والحسد والجحود قائمة ، ولا مسوغ للتخفيف قط ،{ ولا هم ينصرون} ، فلا ترى من نبي ينصرهم ، ولا شفيع يشفع لهم لأنهم عدموا الشفعاء ، وقتلوا النبيين .