{ علمناه} التعليم هنا الإلهام والتوفيق والمرانة على عمل ما ، وهو بتوفيق الله تعالى ، وينسب إليه لأنه لا شيء إلا بإرادته وتوفيقه ، و"الصنعة"هي الصناعة والتفنن فيها وإجادتها ، وهي من خواص الإنسان ، و"اللبوس":ما يلبس ، وهو هنا الدرع الذي تتقي به ضربات السيوف ، والرماح والسهام فلا تنفذ فيه من هذه الأسلحة إلى الجسم ، وقد ألان تعالى الحديد لداود عليه السلام ليتمكن من أداء الصنعة على الوجه الأكمل ، وقال تعالى:{ لتحصنكم من بأسكم} البأس:هو الشدة ، وهو هنا الحرب التي يشعلها الإنسان في هذه الأرض سواء أكانت هجوما معتديا آثما ، أم دفاعا عادلا ، وتحصنكم مصدرها إحصان وهو المنع والحماية ، وهذه نعمة الله تعالى ، فإنه كما أوجد للإنسان السيف ، أوجد له الدرع فيكون الدفع للاعتداء ، وإضافة البأس إلى الناس فيه معنى بلاغي رائع ، إذ إنهم هم الذين يوقعون أنفسهم في الشدائد ، والله يدبر لهم أمر ردها ودفعها .
وإن ذلك يوجب شكر الله تعالى ، وقد دعا سبحانه إلى ذلك فقال:{ فهل أنتم شاكرون} "الفاء"لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي بسبب تلك النعم التي أسداها لكم من هذا التدبر المحكم بأن هيأ لكم الدواء عند الداء ، والدفع عند احتمال الاعتداء . والاستفهام للحض على الشكر ، ولذا قال علماء البلاغة إن هذا التعبير أدل تعبير على الطلب ، والله تعالى المنعم ذو الجلال والإكرام أن تشكر ولكنا نكفر .
وأخبر تعالى عن نبي الله داود الذي آتاه الحكم والخلافة في الأرض أنه قد اتخذ لنفسه صناعة يأكل منها ، وأفهمه الله تعالى هذه الصناعة ، وما كان أكل الرجل من عمل يده عيبا ، إنما العيب أن يكون كلا على الناس وهو القادر على العمل ، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه:هذه الآية في اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب ، فالسبب سنة الله في خلقه ، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع ، وكان أيضا يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا ، وقيل سقاء ، فبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها الضرر ، وفي الحديث:{ إن الله يحب المؤمن الضعيف المتعفف ، وببغض السائل الملحف}{[1516]} .