بعد ذلك خاطب الله تعالى الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال:
{ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون 77} .
واضح كل الوضوح أن النداء للرسول وأتباعه ، وليس لكل الناس ، فالناس يدخلون في النداء إذا آمنوا ومن يؤمن بالرسالة المحمدية فهذا تكليفها ، وهو الصلاة ، واختصت بالابتداء لأنها عمود كل دين ، ولا دين من غير صلاة وإن اختلفت أشكالها في الديانات السماوية وكل طريق إلى الله واتجاه إليه سبحانه ، ولأن الصلاة هي العبادة التي تنصرف فيها النفس والجوارح إلى الله وحده ، ولأنها امتلاء النفس بذكر الله تعالى ، ولأنها إذا أديت على وجهها من قيام وخشوع كامل ، وضراعة صادقة ، واستحضار النفس لكل معانيها ، لا تقع من الإنسان المنهيات ، كما قال تعالى في خاصتها:{. . . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . . 45} ( العنكبوت ) ، وخص الركوع والسجود بالطلب مع أن الصلاة لها أركان قراءة وتكبير ، وركوع وسجود ، فقال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم} ، وذلك لأن الركوع والسجود هما المظهر الحسي للخضوع لله تعالى خضوعا كاملا ، ولأنهما لا يسقطان عن المكلف قط ، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ ، وتسقط عن المكلف قط ، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ ، وتسقط عند العجز عن القراءة ، أما الركوع والسجود فلا يسقطان فإن لم يستطع الصلاة قائما ، صلى قاعدا ، وإذا لم يستطع الصلاة بحركات صلى بالإيماء ، وإلا فهو في عفو الله ، وروى أن بعض الشافعية أجاز الصلاة بالإيماء بالعينين ، ولأنهما لا يسقطان فكانا رمزا للصلاة كلها .
وبعد الصلاة أمر سبحانه وتعالى بالعبادات كلها ، وهذا من قبيل ذكر العام بعد الخاص ، فيشمل ذكر العبادة الصوم والحج ، والكفارات والنذور ، والزكاة ، والصدقات المنثورة ، وأن يعبد الله تعالى في كل عمل يعمله ، بأن يقصد به وجه الله تعالى ، فالعامل في مصنع أو في متجر أو فلاحة الأرض يقصد وجه الله ونفع الناس ، فيكون في عبادة مستمرة ، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله ){[1534]} .
وقد أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير أمرا مطلقا غير مقيد ولا محدود فقال عز من قائل:{ وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} ، الخير كل عمل يكون فيه نفع للناس ، ويتفاوت الخير فيه بتقارب مقدار النفع ، فالنفع الكثير يكون الخير بقدره ، ونفع أكبر عدد يكون الخير كله ، مع القيام بالعبادات على شتى فروعها وكل أنواعها .
وقال تعالى:{ لعلكم تفلحون} ، أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا في الدارين في الدنيا فتكونوا خير الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( خير الناس أنفعهم للناس ) والرجاء من العباد لا من الله ، لأن الله تعالى لا يرجو بل يعلم وينفذ . إنه عليم حكيم .
ونرى أن الآية ابتدأت بالأمر بتطهير النفوس بتوجهها إلى الله تعالى في الصلاة والعبادة ، ثم اتجهت الأوامر إلى نفع الجماعة وأن يكون كل واحد عنصر نفع إنساني فيها .