ولقد امر الله سبحانه وتعالى من بعد ذلك بما يكون فيه العصمة من الزلل ، والاستمرار على الحق إلى ان يلقوا ربهم ، فقال تعالى:
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} العصمة:المنعة ، ومعنى اعتصموا اجعلوا أنفسكم في عصمة ومنعة عن الزلل بحبل الله ، ولكن ما هو حبل الله الذي أمر سبحانه بالاستمساك به ، واعتبر الأخذ به عصمة من الزلل ؟
والجواب عن ذلك أن "الحبل"في أصل معناه اللغوي "السبب"الذي يوصل إلى الغاية ، وله بعد هذا المعنى الأصلي اللغوي معان أخرى مشتركة ، فيطلق على الرسن{[544]} ، كما يطلق على العهد ، كما في قوله تعالى:{ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس . . .112}[ آل عمران] ويطلق على الإيمان ، كما يطلق على القرآن ، وقد ورد بذلك الحديث النبوي ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:"إن القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن استمسك به"{[545]} ، وروى عن زيد بن أرقم ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر حبل الله تعالى في هذه الآية بالقرآن ، فقد قال:"حبل الله هو القرآن"{[546]} وإن ذلك هو الواضح ، فحبل الله تعالى هو شريعته المحكمة الباقية إلى يوم القيامة ، والمؤدى واحد ، فشريعة الله سجلها القرآن ، فهو بيانها ، وهي حبل الله ، والعروة الوثقى التي يضل من فصمها او تركها .
وقد ذكر سبحانه ان المر بالاعتصام لا يؤدى غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها ، ولذلك قال سبحانه:{ واعتصموا بحبل الله جميعا} أي كونوا جميعا مستمسكين به ؛ وذلك لأن هذا الدين كل لا يقبل التجزئة ، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة ، وكلمة{ جميعا} يصح ان تكون حالا من الواو ، ويصح ان تكون حالا من حبل الله تعالى ، وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله ، ولا يصح ان ينفصل منكم طائفة لا تأخذ بذلك الحبل ؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت امر ربها .
وعلى ان كلمة{ جميعا} حال من حبل الله ، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله ، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه ، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء ، فإنها كل لا يقبل التجزئة .
والأمران مرادان معا ، فإن مقتضى النص ان نأخذ جميعا بالشريعة كلها ، لا نفرق بينها ، ولا نتفرق في أمرها ؛ ولذا قال سبحانه:{ ولا تفرقوا} أي لا تتفرقوا في أنفسكم ، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية ، ولا تتفرقوا في دينكم ، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة ، فتضلوا عن سبيل الله ، ولا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه ، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه ، ولذلك جاء النهي عن التفرق في الدين ، فقد قال تعالى:{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء . . .159}[ الأنعام] ولقد توقع النبي صلى الله عليه وسلم الافتراق لأمته ، وانه سيكون سبب ضعفها ، وان عودة قوتها في عودة اجتماعها ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ، كلهم في النار إلا واحدة ، قالوا:ومن هي يا رسول الله ؟ قال:ما انا عليه وأصحابي"{[547]} .
وإن الطريق للخروج من الافتراق هو الذهاب إلى لب الدين بإخلاص ، ومن غير انحراف إلى طائفة دون أخرى ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، مات والله عنه راض"{[548]} فإنه لا يفرق إلا الأهواء ، ولا يهدي إلا الإخلاص ، فإذا سيطرت الهواء المنحرفة ، سرى الضلال إلى النفس وإلى الفكر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله"{[549]} .
وإن النهي عن التفرق توجب إطاعته الإخلاص والحذر ، وطريقة الاعتبار ، ولذلك قال تعالى:{ واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} .
الخطاب عام لكل المؤمنين في كل الأجيال وكل الأعصار ، ويدخل في عمومه كل الأجناس وكل الشعوب ، فالدعوة إلى التذكر دعوة عامة ، وهي تذكر لماضي الانقسام ، ثم من بعد الاتفاق والوئام ، والطريق إلى الوحدة ، ولكن إذا كان التذكير عاما ، فإن الاختلاف الذي أشار إليه النص الكريم كان خاصا بطائفة من المؤمنين ، وهم الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، فالأنصار أكلتهم الحرب التي قامت بين الأوس والخزرج حتى أتم الله عليهم نعمة الهداية ، والعرب جميعا كانوا في تنابز وتنافر حتى كادت بعض قبائلهم تفنيها الحروب التي لا تبقى ولا تذر .ولماذا اعتبر الاختلاف السابق الخاص كأنه اختلاف عام ، وخوطب به المؤمنون جميعا ؟ والجواب عن ذلك ان هذا للدلالة على وحدة الأمة ، فما كان من ماضيها يخاطب به حاضرها للاعتبار والاتعاظ ، ولن سبب الاختلاف في كل نفس لا يقي منه إلا الهداية ، فما وقع من الماضين يتوقع ان يقع من الحاضرين ، لأن الإنسان ابن الإنسان ، ولأن الخلاص طريقه واحد ، فما خلص به الماضون يخلص به الحاضرون ، إن اعتزموا سلوك ما سلكه الذين من قبلهم .
والنعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعالى:{ واذكروا نعمت الله عليكم} هي نعمة الهداية والتأليف القلبي ، وهو أعظم النعم على الجماعات والمم ، وقد بينها سبحانه بقوله:{ إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم}فهذه نعمة بينة واضحة ،وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا ولذا قال:{ فأصبحتم بنعمته إخوانا} فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة ، التي تجعل الأهواء مشتركة ، والمصالح متشابكة متوحدة ، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع ، والآية ترمي إلى بيان ان تألف القلوب وحده نعمة و الأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى ، والتألف معنى نفسي ، والأخوة مظهر اجتماعي عملي ، ولقد شدد- سبحانه- في التذكير بمآتم الاختلاف بعد ان أشار إلى نعمة الوفاق بقوله:{ كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} .
أي كنتم- بسبب اختلافكم وضلالكم وعبادتكم للأوثان وانحراف تفكيركم- قد أوشكتم على ان تقعوا في النار بسبب تغلغلكم في أسبابها وسيركم في طريقكم حتى صرتم كأنكم على شفا حفرتها ، وشفا الحفرة حرفها ، وقوله تعالى:{ فأنقذكم منها} الضمير يعود إلى الحفرة ؛ لن من يكون على شفاها يقع فيها لا محالة إلا ان يبعده مبعد عنها ، فيكون منقذا له منها ، والكلام فيه استعارة تمثيلية ، وخلاصتها انه شبهت حالهم في ترديهم في الاختلاف والوثنية وسيرهم في طريق النار يوم القيامة بحال من يكون على طرف من النار لا يتماسك عن الوقوع فيها ، وشبهت هداية الله تعالى لهم بحال من يتولى تجنيبهم التردي في تلك الحال الخطرة الخطيرة ، ولقد ذكر سبحانه وتعالى سنته في بيان هدايته فقال:{ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} .
أي كهذا البيان الذي بينه الله سبحانه وتعالى لكم في محكم القرآن ، وبين لمن به سبيل هدايتكم ، وبين لكم به نعمة هدايتكم ونعمة أخوتكم ، يبين سبحانه وتعالى دائما الآيات البينات سواء كانت تلك الآيات قرآنية ام كانت كونية ، وذلك لتقربوا دائما من الهداية ، ولتكون بين أيديكم أسبابها ، لعلكم تنالون الثمرة وهي الاهتداء الدائم ، والله سبحانه وتعالى هو الهادي إلى سواء السبيل .