{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}بعد ان بين سبحانه وجوب الاعتصام بحبل الله ، وان الاعتصام به مدعاة الوحدة والقوة والاجتماع على الحق ، وبين طريقه وهو المر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى نتائج التفرق ناهيا عنه محذرا منه ، مبينا نتائجه في الدنيا والآخرة ، وأول نتائج التفرق هي العمى عن الحق مع وضوحه وقيام البينات عليه ، فقال سبحانه:{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا} نهى سبحانه وتعالى بهذا عن التفرق بأبلغ تعبير ، وألطف إشارة ، فقد كان النهي عن ان يكونوا كمن سبقوهم في التفرق ، وذلك نهى مع الدليل الموجب للنهي ، والغاية التي ترتبت على النهي عنه ، وذلك بالإشارة إلى ما كان ممن سبقوهم ؛ إذ تفرقوا أحزابا وشيعا كل حزب بما لديهم فرحون ، فتفرق اليهود طوائف ، وتفرق النصارى طوائف مثلهم ، وكل طائفة تكفر الأخرى ، او ترميها بالزيغ والضلال ، وقد ترتب على التفرق وتوزع أهوائهم ومنازعهم ان اختلفوا في إدراك الكتاب مع وضوحه ، ومع ما جاءهم من البينات الموضحة المبينة التي قامت مثبتة للحق ، وهو واحد لا يتعدد ، وإن ذلك فيه بيان نتيجة التفرق ، وهو الاختلاف مع وجود الحق ، وهو تأكيد لمضمون النهي ؛ لأنه إذا كان التفرق مؤدبا إلى استبهام الحق امام المختلفين مع وضوحه في ذاته ، فإن الافتراق في ذاته امر قبيح ، وغن هذه الصيغة فوق ذلك فيها الاعتبار بمن سبقوا ، ووضع صورة واقعية لنتائج الافتراق ، ولذا كان قوله تعالى:{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا} أكثر معاني من( ولا تتفرقوا ) وهي في هذا المقام أبلغ وأبين ، ولأن الآيات السابقة فيها كلام عن أحوال اليهود والنصارى ، ومناقضتهم للحقائق الإسلامية ، ومحاولتهم تضليل المسلمين عن الحق الصريح ، فكان من المناسب ان يشار إلى حالهم ، ونتائج تفرقهم ، وإعراضهم عن الحق بعد إذ تبين لهم .
وقد يقول قائل:إن الاختلاف يؤدي إلى التفرق مع ظاهر الآية ان الافتراق هو الذي أدى إلى الاختلاف ، ونقول في ذلك:عن الاختلاف الذي لا ينشأ عن التفرق ولا يؤدي إليه هو اختلاف تفكير ، ولا بد أن يصل فيه المختلفون إلى الحق ولا يضلون ، وأما الاختلاف الذي يؤدى إلى الافتراق ، فهو بلا شك يؤدي إلى الضلال ، ويترتب عنه ضلال مع وجود بينات الحق ؛ إذ التفرق معناه انحياز كل جماعة إلى ناحية وفرق معين ، وكذلك السابق على الاختلاف ، فإنه يكون نوعا من تحكم الهوى ، او العصبية النسبية ، او العصبية الإقليمية ، فيكون كل تفكير تحت سلطان هذه العصبية ، فلا تستقيم الحقائق ، ولا تدركها العقول ، مع قيام البينات .
وقد بين سبحانه نتائج هذا الضلال في الآخرة فقال سبحانه:{ وأولئك لهم عذاب عظيم} .
أي أولئك الذين فرقتهم الهواء فضلوا ولم يدركوا الحق مع قيام البينات عليه لهم عذاب عظيم في الآخرة ، وهذا التهديد الشديد مقابل للنتيجة الحسنة التي تكون ثمرة التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وهي الثابتة بقوله تعالى:{ وأولئك هم المفلحون5}[ البقرة] .فالافتراق نتيجته خسران في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة .