ثم بين سبحانه حال الذين اسودت وجوههم وعقابهم بقوله تعالت كلماته:{ فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} .
هذا تفصيل لما أشار إليه الإجمال ، وفيه بيان العقوبة وسببها ، وقوله تعالى:{ أكفرتم بعد إيمانكم} بيان لحالهم ، أي ان حالهم حال من يستفهم عنها استفهام إنكار وتعجب فيقال لهم:أكفرتم وجحدتم الحق وأنكرتموه بعد إيمانكم به وإذعانكم ، وهذا حقا موضع عجب ، كمن يكون في روضة من الرياض فيها النعيم ، ويتركها على الكفر والجحيم ، فهم كانوا في روضة الإيمان ، وبتفرق أهوائهم وتنازعهم وعصبيتهم انتقلوا إلى جحيم الكفر ، وإذا كانوا كذلك فكفرهم كان كفرا عن علم بالحق وهم لذلك لاي عذرون ، ولذا ترتب عليه العقاب فقال:{ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب و آلامه كما ذقتم حلاوة الهوى ، وكان ذلك العذاب بسبب استمراركم على الكفر ، وموتكم عليه ، ودل على الاستمرار التعبير ب{ كنتم} ، فإن ( كان ) تدل على الاستمرار ، وقد استمروا على حال الكفر في أقبح صوره ، وهو الكفر بعد الإيمان ، وبعد هذا بين حال الذين ابيضت وجوههم فقال:
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي أن الذين أشرقت نفوسهم بنور الحق ، وأدركت قلوبهم معنى الإيمان ، وذاقت حلاوته ، في رحمة الله تعالى ، ورحمة الله تعالى تتسع لكل معاني النعيم المقيم ، ورضوانه العظيم وهو اكبر الرحمة ، ثم خصهم سبحانه بالخلود في هذا النعيم الذي لا يحد بحد ، ولا يرسم برسم ، ولا تبلغ العقول مداه ، فقال سبحانه:{ هم فيها خالدون} . أي هم في الرحمة باقون دائمون .
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين:
أولهما:انه ذكر بياض الوجوه قبل ، ثم ذكر حال الذين اسودت وجوههم قبل الذين ابيضت ، ليختتم الآية برحمته ، كما اختتم الآية السابقة ببيان من يفوز بهذه الرحمة .
الأمر الثاني:انه سبحانه ذكر وصف الخلود في النعيم ، ولم يثبت الخلود لمقابله ، وقد صرح به في غير هذا الموضع ، وذلك أيضا من باب الرحمة ورجاء التوبة .
اللهم من علينا بهدايتك ، وانعم علينا بنعمة الإيمان الدائم ، واشرح صدورنا لكل ما تأمر به ، واصرفنا عما نهيت عنه ، فإن القلوب بيدك وأنت مقلب القلوب .