{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين108 ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور109 كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن اهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون110}
بعد ان بين سبحانه وتعالى ما كان من اليهود في ماضيهم ، وكيف أضلهم الهوى ، والعصبية العنصرية ، ومنعتهم من ان يصل نور الحق إلى قلوبهم ، حتى إنهم ليرون النور يمشي بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم ، ومع ذلك يصمون آذانهم عن سماعه ، ويحجبون أضواءه عن نفوسهم ؛ذكر سبحانه انه بين ذلك في آياته ليعتبر من يعتبر ، ولينتفع الحاضرون بنتائج ما وقع فيه الغابرون ، فيستبصروا ويستبينوا ويعتبروا ، ولذا قال سبحانه:{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} .
الإشارة في الآية الكريمة إلى ما كان من آيات سابقات بينت فيها أحوال النفوس التي ضلت وعميت عن الحق ، وكانت الإشارة بالبعيد لعلو منزلة هذه الآيات في بيانها للحق ، وإعلانها له ، وصدقها فيما حكت وأعلنت ، ومعنى{ نتلوها}:ننزلها عليك متلوة مقروءة واضحة مبينة سهلة الفهم لمن يريد الحق ويبتغيه ، وقوله تعالى:{ بالحق} أي متلبسة بالحق مبينة له موضحة ، والحق هو المر الثابت الذي لا مجال للشك فيه ، ولا تختلف فيه العقول السليمة ، والمدارك القويمة ، ولا يوجد أمر ثابت كالحق ، وهو ميزان الأفكار ومقياس الأشياء ، وعليه قامت السموات والأرض وما بين ألناس . وإضافة التلاوة إلى الله تعالى والإظهار في موضع الإضمار ، فقد قال سبحانه:{ تلك آيات الله نتلوها}لكي يكون التصريح باسم الله سبحانه وتعالى مربيا في النفس المهابة والإجلال له ، وهو المستحق وحده لوصف الألوهية ، فلا إله سواه ، ولا معبود بحق غيره ، وهو ذو الجلال والإكرام ، وهو المنشئ الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه ، وهو العلي القدير ، فالتصريح باسمه الكريم يزيد البيان جلالا ، ويتضمن معنى الحساب لمن يعرض عن آيات ربه ، ويجعل النفس لا تسير وراء الهوى ، ويتضمن معنى القدرة على إنزال العقاب والثواب بعد الحساب ، وغنه إذا كان كل شئ في هذا الوجود أوجده ربه بالحق ، واخبر عنه ، فالظلم منفي عنه سبحانه وتعالى ، ولذا قال سبحانه:{ وما الله يريد ظلما للعالمين} هذا نفي للظلم عن الله سبحانه ، والتصريح بلفظ الجلالة في موضع الإضمار هنا ،كان لمثل ما ذكرنا لتربية المهابة ، وليكون ذلك تأكيدا لنفي الظلم ، إذ كيف يظلم الموصوف بالألوهية ، وحده ، وكيف يريد الظلم مانح العالم كله الوجود ؛ وقال:{ للعالمين} وهم العقلاء في هذا الكون ؛ لنهم هم الذين يحسون بوقع الظلم وآلامه ، ويشعرون بمتاعبه وآثامه ، واصل الظلم معناه النقص ، ومن ذلك قوله تعالى:{ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا . . .33}[ الكهف] ثم أطلق على نقص الحقوق وهضمها ، ومن ذلك قوله تعالى:{ فلا يخاف ظلما ولا هظما112}[ طه] وقوله تعالى:{ ومن يعمل سوءا او يظلم نفسه . . .110}[ النساء] ثم أطلق الظلم على موضعا للحفر إنه ظلمها ، ويقال عن التراب المظلوم ، وعن الأرض المظلومة ، ولقد قال الراغب في معنى الظلم:( الظلم عند اهل اللغة وكثير من العلماء:وضع الشيء في غير موضعه المختص به ، غما بنقصان او بزيادة ، وغما بعدول عن وقته ومكانه ) .
والظلم الذي نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه عام لا يخص نوعا دون نوع ، وهو نكرة في موضع النفي ، ومن المقررات اللغوية ان النكرة في مقام النفي تعم ولا تخص ، فالمعنى لا يريد الله سبحانه وتعالى ظلما قط أي ظلم كان ، فقد خلق السموات والأرض بالحق ، وربطهما وما فيهما بميزان لا يتخلف إلا بإرادته سبحانه وتعالى ، فليس فيهما شيء إلا في موضعه ، ودبر أمور الكون والناس بدقة وإحكام ، وهو العليم الحكيم اللطيف الخبير السميع البصير ، وانزل سبحانه الشرائع بالحق والميزان ، فليس فيها شئ إلا وهو عدل لا ظلم فيه ، وأساس الشرائع السماوية كلها العدل الذي يستطيعه الإنسان ، وقد قال تعالى:{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . . .90}[ النحل] . وبهذا نفى الله سبحانه وتعالى الظلم عن نفسه ، ونفى ان يكون نظام شرعه فيه إباحة لظلم العباد فيما بينهم ، ولذا قال سبحانه في حديث قدسي:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظلموا"{[556]} .