وإن الله سبحانه قد نفى عن ذاته الكريمة إرادة الظلم ، وبين انه يضع الأمور في مواضعها ؛ ليصحح الأفهام التي تتوهم ان النبوة تكون في قبيل دون قبيل ، ولبيان ان كل شيء له ميزان ومقياس ، وان رقى الأمم ورفعتها يكون بميزان ثابت ، وان الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ، وان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما كان في أمة إلا وقاها الآفات الاجتماعية ، وانه لا تتركه امة إلا تردت في مهاوي الفساد ، وأدال الله من قوتها ، ذلك هو الميزان الذي وضعه العلي القدير لرفعة الأمم ، ولذا قال سبحانه في وصف الأمة المثلى:
{ كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} والخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين تلقوا الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين ، و"كان"في قوله تعالى:{ كنتم خير امة} يصح أن تكون بمعنى وجد ، أي وجدتم خير أمة لهذه الأوصاف ما تحققت فيكم ، ويصح ان تكون ناقصة ، ويكون المعنى قدرتم في علم الله تعالى خير أمة إن قمتم بهذه الأمور ، ويصح ان تكون بمعنى صار ، أي تحولتم معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير امة للناس بسبب الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحن نميل إلى ان تكون بمعنى وجد او ناقصة ، والمعنى فيهما متقارب ، ليشمل النص المخاطبين بتلك الحقائق في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن يجيئون بعدهم ويتبعونهم بإحسان إلى يوم القيامة .
وإن هذه الخيرية التي قدرها سبحانه لهذه الأمة منوطة بتحقيق أمرين احدهما:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والثاني:الإيمان المطلق بالله والإذعان له وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ في الأسباب ، واعتقاد انه لا قوة في هذا الوجود غير قوته ، ولا معبود بحق سواه ، ولا خضوع لحد كائنا من كان غيره تعالت قدرته ، فليست الخيرية التي خاطب بها المهاجرين والأنصار والذين يتبعونهم ؛ لنهم مسلمون فقط ؛ أو لأشخاصهم وذواتهم ، بل لأنهم متصفون بأوصاف هي علة هذه الخيرية ، ومناط تلك الرفعة الإلهية .وتلك الوصاف هي:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، وقوله تعالى:{ تأمرون بالمعروف} موقعها من الإعراب إما ان تكون جملة حالية من ضمير الخطاب ، وإما ان تكون كلاما مستأنفا مفصولا ، ولذا قال الفخر الرازي في التفسير الكبير:"اعلم ان هذا الكلام مستأنف ، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول:زيد كريم ، يطعم الناس ويكسوهم ، ويقوم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام انه ثبت في أصول الفقه:"ان ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ؛فهنا حكم بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقبيه علة هذا الحكم".
هذا ، ويصح ان نقول:عن الحكم بالخيرية مبهم ، وقد بينه سبحانه بقوله:{ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}فالخيرية التي حكم سبحانه وتعالى بها هي هذه الوصاف ، وهذا ينطبق على المثل الذي ساقه الرازي ، وهو ، فلان كريم:يطعم ويكسو ، فإن يطعم ويكسو تفسير لمعنى كرمه ، وبيان له ، فالاستئناف إذن ليس لأن جملة "تأمرون"علة للخيرية ، بل هي بيان للخيرية ، ولذلك لا ينطبق الحكم بالخيرية على من لا يتصف بهذه الصفات ، فالجماعات التي تهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكون فيها إيمان ، لا يمكن أن تكون خير أمة ، بل لا توصف بالخيرية قط ؛لأنه لا خير إلا في الفضائل والحق والعدل ، ولا تقوم هذه الأمور إلا بالإيمان وقيام رأي عام مهذب لائم يقوم المعوج ، وتنزوي فيه الرذائل انزواء ، إذ يقتلها نوره المشرق وشمس الحقيقة الناصعة .
وهنا قد يسأل سائل:لماذا قدم المر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ؟ ولماذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله ، ولم يذكر الإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب وغير ذلك مما يوجبه الإيمان ، ولا يعد الشخص مؤمنا إلا به ؟ ويجاب عن السؤال الأول:بأن ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدما لبيان انه مطلوب لذاته ، وانه فضيلة لا تختلف فيها المم ولا الجماعات ، فهو كالصدق والعدل والحق تتفق عليها الأفهام وبل ولا يمكن أن يتحقق بنيان جماعة من غير تحققه ، وإلا كانت كالذئاب الضارية ، أو كانت كالوحوش في الغابة ، والإيمان سياج الجماعة وحمايتها من ان تضل ، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يقوم به بناء الجماعة ، والإيمان هو الذي يحميها ويسدد خطاها ، فذكر ما يقوم به البناء ثم ذكر ما يكون به ذلك البناء في دائرة الفضيلة والخلاق الكريمة وهو الإيمان ، وفي الحقيقة هما متلازمان ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق يتبعه إيمان الشذاذ الخارجين ،والإيمان الحق بالله تعالى والإذعان لأوامره ونواهيه يتبعه حتما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هذا هو الجواب عن الجزء الأول من السؤال ، اما الجواب عن الجزء الثاني ، وهو لماذا اقتصر على ذكر الإيمان بالله ؟فهو ان الإيمان بالله هو لب الإيمان بكل أجزائه وعناصره ، فالإيمان بالله هو الإذعان المطلق لقوة غيبية تسير هذا الكون وتدبره ، وتقوم على كلاءته وحمايته ، والإيمان بقوة غيبية يقتضي الإيمان برسالتها للناس ، ويقتضي الإيمان بالأرواح الطاهرة المطهرة ، والإيمان بأن الله لم يخلق هذه الأشياء عبثا ، وغن ذلك يقتضي الإيمان بقدرة الله على الإعادة كما بدأ الخلق بالتكوين ، وبأن هنالك يوما آخر فيه الحساب ، وإن من مؤمن بالله ولا يؤمن بهذه العناصر كلها لا يكون مؤمنا بالله حق الإيمان ، ولا مذعنا لحكامه حق الإذعان ، ولذا كان اهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم بالله ، وأنكروا رسالة الرسول مع قيام البينات عليها غير مؤمنين ، وغير مذعنين للحق الذي ارتضاه الله .
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين:أولهما:أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر غير تغيير المنكر ، وغير العمل بالفعل على منعه ، فالأمر والنهي إرشاد وتوجيه ونصح وتنبيه ، والتغيير يكون بالعمل المنظم والأحكام الرادعة ، وذلك يتولاه الحكام ، إلا إذا تقاصرت همم الحكام ، فإنه يجب تغييرهم ليتولى من يقيم حدود الله ، وينفذ المر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه:انه ليست الخيرية مرادفة للقوة ، فالخيرية هي أن يكون المجتمع فاضلا يقوم بحق العدل ، وان يكون كل شيء فيه بقسطاس مستقيم ،وأن تسوده الأخلاق الكريمة والسلوك القويم ، وأما القوة فالأمر فيها لسيطرة المادة والغلبة والاستعداد الحربي ، وإنا نرى أقوى الأمم الآن أشدها انتهاكا لحرمات الفضيلة في داخلها وخارجها ، ومن الأمم الضعيفة ما يكون للفضيلة فيها موضع ، وللأمانة فيها سلطان ، وللحق فيها أنصار ، ولا شك انها اقرب إلى الخير من تلك الأمم القوية ، وفي الجملة ، إن القوة تستمد من المادة إذا انفصلت عن الفضيلة ، والخيرية تستمد من الحق والعدل والفضائل الإنسانية ، والمساواة بين بني الإنسان من غير عصبية جنسية أو إقليمية ، وهما في عصرنا الحاضر متمايزان لسيطرة المادة على الأقوياء ، وفقدانهم قوة الإيمان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد قلنا:إن الإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل رسول إذا قامت الأدلة على رسالته ؛ ولذا نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن بعض أهل الكتاب ، فقال تعالت كلماته:
{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} و"لو"هنا هي التي يقول عنها علماء النحو:إنها حرف امتناع لامتناع ، أي امتنع الخير فيهم لأنفسهم لامتناع الإيمان الكامل ، وقد ذكر نفي الإيمان عنهم مطلقا مع انهم يقولون إنهم يؤمنون بالله ، ويقولون:نحن أبناء الله وأحباؤه ، وذلك لأنهم إذ لم يذعنوا لحكام الله تعالى وأوامره- وقد فسروها على حسب أهوائهم ومنازعهم العصبية والجنسية ، واعتقادهم انهم شعب الله المختار- قد فقدوا الإيمان ، إذ الإيمان كل لا يقبل التجزئة ، فليس بمؤمن بالله من يكذب رسالة الله التي جاءت بها البينات ، وقامت عليها الدلائل ؛ وفي نفي الإيمان نفيا مطلقا ما يومئ إلى ان الذين يجعلون هواهم مسيرا لاعتقادهم وفكرهم لا يؤمنون بحقيقة من الحقائق إلهية كانت او إنسانية .
وقد نفى سبحانه عنهم الإيمان بأي شيء ، ولذلك لم يكن ثمة حاجة بعد هذا إلى نفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛لن ذلك يقتضي الإيمان بالفضائل والمعاني الإنسانية ، وهم لا يؤمنون بشيء منها ، وإن ذلك ليس خيرا لهم في شيء ؛ لنهم بذلك تنحل جماعتهم ، وتتفرق وحدتهم ، ونفى الإيمان عن اهل الكتاب ليس نفيا له عن الكل ، بل هو نفي عن الأكثر ؛ لذا قال سبحانه:
{ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} المؤمن هو المذعن للحق إذا قامت بيناته او ذلت أمارته ، وهو ينشأ عن استقامة القلب ، والتزام الجادة ، والاتجاه دائما إلى الطريق المستقيم بإخلاص ونزاهة نفس عن الهوى ، ولذلك كان غير المؤمن خارجا عن الاستقامة ، ولذا يسمى فاسقا ، باعتباره خرج عن منهاج الاستقامة ، وترك طريق الحق ، وسلك سبل الشيطان ، ويسمى كافرا باعتباره جحد الحق ، وستر ينابيع الإدراك في نفسه ، وناسب ان يذكر وصف الفسق بالنسبة لغير المؤمنين من اهل الكتاب ؛ لأنهم خرجوا عن منهاج الكتاب المنزل ، وفسقوا عن امر ربهم وتركوه وراءهم ظهريا .
وإن منهاج القرآن هو العدالة في الحكم دائما ، ولذا لم يصفهم كلهم بالفسق وإن كان قد عمهم ، بل وصف بعضهم وإن كان الأكثر ، ومثل ذلك قوله تعالى:{ منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون66}[ المائدة] ولكن من هم المؤمنون ومن هم الفاسقون ؟ سنبين في تفسير الآيات الآتية ، والله سبحانه وتعالى هو وحده العليم بالصواب .