{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}
/م100
الضرب في الأرض هنا هو السفر ، وأطلق الضرب في الأرض على السفر ، لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته وبمتوكئه على الأرض في حركة مستمرة جزءا من النهار ، فكان التعبير عن الضرب في الأرض بالسفر في موضعه ، وهو مجاز واضح في علاقته .
ونجد التعبير في هذا النص الكريم يختلف عن قوله تعالى:{ ومن يهاجر في سبيل الله} في الآية السابقة في أمرين:أحدهما:أنه في الآية السابقة عبر عن السفر بالهجرة:والهجرة تقتضي الانتقال على غير عودة ، وعلى نية الإقامة في مكان آخر يتخذه موطنا ومستقرا ومقاما دائما له ، وفي هذا النص عبر عن السفر بالضرب في الأرض ، أي أنه سفر على نية العودة غالبا ، ولا يريد به اتخاذ مكان آخر موطنا له .
والثاني:أن الآية تنص على الهجرة في سبيل الله تعالى ، والخروج من أرض الذل إلى أرض العزة ، حيث يمكن أن تكون بالهجرة نصرة للمسلمين ، يعد في سبيل الله ، أما في هذه الآية ، فإن السفر عام يشمل ما يكون في سبيل إقامة الدين ، وما يكون في طلب الرزق ، وزيارة ذوي الأرحام ، وغير ذلك مما يعد قربة أو أمرا مباحا .
والنص الكريم يبيح قصر الصلاة ، ووردت السنة بأن الصلوات التي عدد ركعاتها أربع ركعات يقصر إلى اثنين ، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء ، والنص الكريم قد اقترن القصر فيه بشرط مخافة العدو أن يفتن المؤمنين في سفرهم ، بأن يكون المؤمنون غير آمنين من أن يدهمهم عدو في سفرهم ، فهم يقصرون الصلاة ، حتى يكونوا في حال استعداد مستمر ، ولا تشغلهم الصلاة عن الحذر منه . وقد قوي هذا بأن الآية الكريمة التي أعقبت هذه الآية كانت خاصة بصلاة الخوف التي تكون في الميدان ، بمقتضى ظاهر النص يكون القصر عند الخوف من العدو ، وأن القصر مع صلاة الخوف يكون عند لقاء العدو .
ومعنى الفتنة هنا هو إنزال الأذى بالمؤمنين ، بأن يجعلهم في حال شدة ، وينزل بهم كارثة بمداهمتهم وقتلهم أو الانقضاض عليهم ، وهم ليسوا في حال استعداد للقتال .
وبهذا يكون قد ثبت بالنص القرآني قصر الصلاة ، في حال خوف الفتنة من الذين كفروا ، وصاروا في عداوة مستمرة للمؤمنين بسبب كفرهم ، ولكن ثبت بالسنة القصر في الصلوات التي عدد ركعاتها أربع في حال سفر ، ولو لم يكن السفر في موضع مخوف ،وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي أجمع الصحابة عليها{[789]} . ويصح أن نقول أن قوله تعالى:{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} لم يكن إلا في بيان القصر في حال خوف الفتنة من الذين كفروا ، لأن السياق كله كان في الجهاد ، ولكن يمنع ذلك الفرض أن النص جاء في مطلق سفر ، لا لأجل الجهاد .
ومهما يكن فقد ثبت النص القرآني في القصر في حال خوف الانقضاض من العدو ، وبالسنة القصر في عموم أحوال السفر ، ولما كان ذلك هو موضع النص ، ذيل النص الكريم بما يدل على وجوب الحذر دائما من الأعداء الكافرين ، فقال:
{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} هذا النص لتأكيد الحذر من الكفار دائما ، لأن عداوتهم مستمكنة في قلوبهم ، وقد أكد سبحانه وتعالى هذه العداوة بمؤكدات أربعة:أولها- "إن"الدالة على التوكيد ، مع وصف الذين كفروا بالكفر ، وجعله شأنا لهم ، ومن كان جمود الحقائق شأنه لا يؤمن على شيء . وثانيها- التعبير ب "كان"الدالة على الدوام والاستمرار . وثالثها- وصف الكافرين بالعداوة ، لأن العدو يطلب لعدوه دائما الشر ، ويترقب مواضع غفلته لينقض عليه ، فلا تنتظر منه رحمة أو حلم ، أو نسيان للحقد . ورابعها- وصف العداوة بأنها ظاهرة بينة لا خفاء فيها ، فالمغرور من يأمن عواقبه .
وقد تكلم العلماء في السفر المسوغ لقصر الصلاة:ما مقداره ؟ وما حكم القصر ؟ أهو واجب أم سنة ؟ ونوع السفر الذي يجوز فيه القصر ؟ .
أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز فيها القصر ، فالفقهاء اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة:
أولها:قول أهل الظاهر أن القصر يكون في كل ما يسمى سفرا ، سواء أكان قصيرا أم كان طويلا ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدار محدود يمنع القصر فيما عداه ، فبقيت كلمة السفر على إطلاقها ، من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة .
وثانيها:قول الحنفية ، أن السفر الذي يسوِّغ القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ، بالسير المعتاد وهو سير الإبل ، مع أخذ الراحة الواجبة في السفر ، فلا يسير المدة كلها ، بل يسير في الزمن الذي يعتاد عليه في السفر ، وذلك لأن عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا إذا تجاوز موطنه بسير نحو ثلاثة أيام .
وثالثها:قول أكثر الأئمة أنه يوم وليلة ، وقيل يوم فقط ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي رحم محرم منها"{[790]} ، وروى الحديث مرة يوما وليلة{[791]} ، وروى ثلاثة أيام{[792]} ، ففيه الأوجه الثلاثة . والتوفيق أن كل رواية كانت إجابة لحال خاص ، فسئل عليه الصلاة والسلام عن يوم ، وعن يوم ليلة ، وعن ثلاثة .
وبالنسبة لكون القصر واجبا أو مخيرا فيه ، فالمذهب الشافعي أنه مخير فيه ، وروى أنه سنة ، ومن اختار القصر صلى قصرا بالنية ، ومن اختار التمام صلى تماما بالنية ، ويكون الفرض في حقه بعد أن ينوي التمام أربعا . وبقية الأئمة تقريبا على أن القصر واجب ، وما يصلى فوق القصر يكون نافلة ، وحجتهم ما تواتر عن الصحابة من أنهم يقصرون كلما كان سفر ، وقدره يوم للإمام عثمان إذ لم يقصر عندما حج ، وقال أصحاب هذا الرأي أن الفرض شرع اثنين ، ثم بقي في السفر كذلك ثم زيد في الحضر ، وحجة الرأي الأول قوله تعالى:{ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ، ونفي الإثم يقتضي التخيير ، وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن ذلك للتيسير والتسهيل ، وفي الحق أن كلمة "لا جناح"استعملت في السعي بين الصفا والمروة ، ومع ذلك كان السعي بينهما واجبا ، فالله تعالى يقول:{ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ( 158 )} ( البقرة ) .
وبالنسبة لنوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فقد أجمع الفقهاء على أن السفر للجهاد أو الحج أو العمرة أو صلة الرحم أو القيام بواجب ، يجيز القصر أو يوجبه . والأكثرون على أن السفر للتجارة والأعمال المباحة يكون فيه القصر .
وروي عن مالك أنه قال:إن خرج للصيد لا لمعاشه ، أو لمشاهدة بلد متنزها ومتلذذا ، لم يقصر . وجمهور العلماء على أنه لا يقصر للصلاة من سافر في معصية ، وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي أنه يقصر ؛ لأنه يتحقق فيها معنى السفر وقد كان القصر في مطلق سفر ، وروي مثل ذلك عن مالك - رضي الله عنه .
وفقنا الله تعالى لإقامة الصلاة عمود الدين ، وفيها برد المتقين .