{ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما( 104 ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما( 105 ) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما( 106 )} .
/م104
{ ولا تهنوا في ابتغاء القوم} قال بعض العلماء:إن ذلك الأمر المرشد بعد غزوة أحد ، ورويت في ذلك روايات إن صحت لم تعين أن يكون هذا النص في موضعها ، ولكن الذي يتفق مع السياق ، إن هذا النص بعد صلاة الخوف يدل على وجوب الاستمرار في القتال من غير وهن ولا ضعف ، وجوب الاستمرار في طلب مواطن الضعف في الأعداء ، ليكون الغلب لكلمة الحق وكلمة الله سبحانه وتعالى ، فالسياق على هذا يكون:إنكم إذا أديتم الصلاة فاتجهوا من بعدها ، وقد تسلحتم بذكر الله ، إلى القتال .
ومعنى النص الكريم:لا يصيبكم وهن ، أي ضعف في همتكم وعزيمتكم ، في ابتغاء العدو وطلبه ، وتحري موضع ضعفه والنيل منه ، ولا تقعد بكم آلام الحرب عن متابعته ، واللحاق به ، فإن تكونوا قد أصابتكم جراح فقد أصابته ، ولذا قال سبحانه:
{ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما} مرمى النص الكريم أنه لا يصح أن تكون الجراح ، وويلات الحرب وآلامها مثبطة لكم عن الاستمرار في طلب المعتدين وملاقاتهم ، لأنه إن أصابكم من الجراح والآلام ما أصابهم ، فهم يجرحون ويألمون من غير رجاء في الآخرة ، ولم يوعدوا بالنصر المؤزر الباقي في الدنيا ، ولا بالنعيم في الآخرة فهم يألمون في غير أمل مرجو وأنتم إن ألمتم ، فلرجاء النصر ولرجاء النعيم ، فأنتم أحق بالصبر ، وأولى بأن تطلبوهم ولا تهنوا وتضعفوا في طلبهم .
ويسوق الزمخشري النص الكريم مساقا فيه شبه لوم للمؤمنين ، فيقول في تفسير قوله تعالى:{ إن تكونوا تألمون}:( أي ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم ، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم ، يصيبهم كما يصيبكم ثم إنهم يصبرون عليه ، ويتشجعون فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم ، لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب العظيم في الآخرة ) .
ونحن نرى أن النص فيه تحريض على الصبر ، ولا لوم فيه ولا شبه لوم ، فما كان عند المشركين صبر كصبر المؤمنين ، حتى يوازنوا بهم ويحرضوا على مثل ما هم عليه .
وفي جعل رجاء المؤمنين من الله ، في قوله تعالى:{ وترجون من الله} ، إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى ، وأن رجاءهم عنده وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه ، ويؤيده بنصره:{ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم( 126 )}( آل عمران ) ، وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصناما لا تضر ولا تنفع ! .
وإذا كان الرجاء من الله ، فهو رجاء من العليم بكل شيء الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها وينصر من ينصره بحكمته ولذا قال سبحانه:{ وكان الله عليما حكيما} أي ثبت وتقرر أن العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى ، جلت قدرته ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما حكيما ، فإنه يعلم جهاد المؤمنين للحق ، واعتداد المشركين بالباطل ، وبمقتضى حكمته ، لا يستوي الصالح والمفسد ، والمحق والمبطل ، ولا يستوي عنده الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فالمؤمنون إذ يرجون ما عنده ويطلبون رضاه ، يجدون العليم الحكيم:{ والله يؤيد بنصره من يشاء . . .( 13 )} ( آل عمران ) ،{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . . .( 21 )} ( المجادلة ) .
وإن العليم الحكيم هو الذي أنزل القرآن مشتملا على شريعته ، ليكون القسطاس المستقيم والحكم العادل ، ولذا قال سبحانه:{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} .