{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}
/م104
يذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان ، قال:كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق ، ثلاثة:بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير منافقا ، وقد كان طعام وسلاح لعمى رفاعة ، كان قد ابتاعه فسرق منه ، فقال:يا بن أخي ، قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا( أي غرفتنا ) وذهب بطعامنا وسلاحنا فتحسسنا وسألنا ، فقيل لنا:إن بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نراهم إلا على بعض طعامكم . . ويسترسل قتادة في القصة ، فيذكر أن بني أبيرق اتهموا رجلا له صلاح وإسلام ، وهو لبيد بن سهل ، فغضب وهدد بالسيف . . . فذهب قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:{ سأنظر في ذلك} ، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا يقال له أسيد بن عروة ، فكلموه في ذلك فاجتمع بأناس فقالوا:يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا ، أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ، ويقول قتادة:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة"! . فرجعت فأخبرت عمي ، فلم يلبث أن نزل القرآن:{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} ، وقد كشف أمر بشير فلحق بالمشركين مرتدا{[796]} .
وسواء أصح ذلك الخبر سببا للنزول أم لا يصح ، فإن الآية لها صفة العموم ، وتفسر بعمومها لا بخصوص سببها ، ومعنى النص الكريم على ذلك:إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم المكتوب المسجل ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم بما توجبه نصوصه وبما يريه الله وينير قلبه لإدراك الحق .
وهنا ثلاث إشارات بيانية:
الأولى:أن الله تعالى عبر عن القرآن ب "الكتاب"للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون ، باق إلى يوم القيامة .
الثانية:كلمة "بالحق"، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية فهو مع الحق ، وبالحق وناطق بالحق ، ومشتمل عليه ، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق ، ولا يخالفه إلا ما هو باطل .
الثالثة:قوله تعالى{ بما أراك الله} ، فإنها مقابلة لقوله تعالى:{ إنا أنزلنا إليك الكتاب} ، وهذه المقابلة تقتضي أن تكون كلمة{ بما أراك الله} لها معنى خاص ، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها ، فالقاضي لكي يكون قضاؤه عدلا لابد من أمرين:أحدهما - قانون عادل هو الحق من كل نواحيه وهو هنا الكتاب الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ،والثاني - أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة ، وقلب مشرق مدرك ، وهذا يكون بنور الله وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى:{ بما أراك الله} .
ولكن نور الحق لا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة ولا منحرفة وهذا هو ما نهى الله عن نبيه والنهي لعموم أمته ولذا قال تعالى:
{ ولا تكن للخائنين خصيما} تبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القصة السابقة أن من فيه صلاح وإسلام يكون على الحق ، فانحاز فكره ككل البشر ، فالله سبحانه وتعالى نبهه ، تعليما لأمته ، ولكل قاض من بعده إلى أنه لا يجوز أن ينحاز فكره إلى أحد الخصمين ، فعسى أن يكون هو الخائن وغيره هو البريء ، ولا بد أن يسمع البينات ويجعلها هي الحاكمة . والخصيم بمعنى المخاصم ، كالجليس بمعنى المجالس ، والمعنى على هذا:ولا تكن أيها الرسول الأمين مخاصما لأجل الخائنين بأن تجعل فكرك ينحاز إليهم قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق . وسمي هؤلاء خائنون لأنهم في علم الله كانوا كذلك ، وهو يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخيانتهم ، والله تعالى خير شاهد .
وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز ، لكي يستمع إلى البينات منصفا مقدرا ، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق ، ولا يوجهها . وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته لأنه لا يدري:لعله أصاب الباطل والعصمة لله تعالى وحده ولأنبيائه ولذا قال سبحانه:{ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما}