{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما( 107 ) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ( 108 ) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا( 109 )} .
/م107
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} الجدال هنا الدفاع وإقامة الدليل لمصلحة الخائنين ، وذلك للاسترسال في حسن الظن بالمظهر ، وترك ما يختفي ولا يستبين ، فإن ذلك إن جاز في السياسة لا يجوز في القضاء ، وإن جاز في حقوق الله تعالى لا يجوز في حقوق العباد ليعطى كل ذي حق حقه ، ولكيلا تذهب الأموال والأنفس والدماء هدرا ، فلا بد لإظهارها من تكشف المستور ، وإظهار المخبوء .
والجدال في أصل معناه اللغوي مشتق من الجدل بمعنى الفتل ، أي تقوية الحجة ، ويكون المجادل كمن يفتل الحبل ويقويه ، وقيل إنه مأخوذ من الجدالة والجدالة هي الأرض ، فكل واحد من الخصمين يكون كالمصارع يريد أن يلقي صاحبه على الأرض . وإطلاق الجدالة على الأرض منه قولهم:تركته مجدلا ، أي مطروحا على الأرض .
والاختيان ، الذي هو مصدر{ يختانون أنفسهم} ، يعرفه الأصفهاني في مفرداته بأنه:"تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة} وتحرك الشهوة لتحري الخيانة قصد إليها وتعمد لها ، وعمل على إحكامها ، والخيانة والنفاق باب واحد موضعهما من النفس واحد .
ومعنى قوله تعالى:{ الذين يختانون أنفسهم}:الذين يقصدون خيانة أنفسهم ويتحرونها ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم . وأضيفت الخيانة للنفس ، لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما ، يعود ضرره على الجماعة ويعود عليهم أنفسهم ، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها ، وارتابت في شئونها ، وضل عن الناس معرفة الحق ، وغاب عنهم لبه ! ! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى ، وسيحاسبهم عليها من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها ، فيصيب الفساد نفوسهم ، وتنحل كل العُرا فيها ، وبذلك تضطرب ، وتكون في بلبال مستمر:
{ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها ، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها ، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم ، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهم فإنهم لا ينالون حب الله تعالى ، والمعنى الظاهر للنص:{ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} هو أن الله تعالى العلي الحكيم ، الذي لا ترجى محبة سواه ، لا يحب من كانت الخيانة وصفا من أوصافه ، وشأنا من شؤونه ، وخلقا من أخلاقه ، ومن صار الإثم عادة له ، حتى صار يوصف بأنه خوان وأثيم ، فكلمة خوان صيغة مبالغة معناها أن الخيانة صارت وصفا ملازما له ، وكلمة أثيم صيغة مبالغة من إثم تفيد أن الإثم صار وصفا ملازما . وأن محبة الله تعالى شأن من شؤونه سبحانه تليق بذاته الكريمة ، وهي تتضمن معنى الرضوان وتستلزم فيض رحمته ومنح غفرانه فمن فقد محبة الله تعالى فقد حرم من الرضوان ، وحرم من رحمة الله تعالى التي تكون للتوابين ، وحرم غفرانه لأنه لا يكون إلا لمن أحاطت به خطيئته ، حتى لا ينتقل إلا من إثم إلى إثم .
وقد أكد سبحانه نفي محبته لهؤلاء الذين أركست نفوسهم في الخيانة ، ودنس الإثم نفوسهم حتى أصبحوا لا يعيشون إلا في آثام ، بالجملة الاسمية المصدرة بحرف "إن"الدال على التوكيد .
وهنا إشارة معنوية:وهي أنه تعالى وصف الذين حرموا محبته بأنهم خوانون أثيمون ، وذلك له معناه لأن اختيان النفس ، وتعودها الخيانة يجرها إلى آثام كثيرة ، فمن خان يسرق ويكذب ويأكل أموال الناس بالباطل ولا يتحرج عن إثم فكأن الخيانة جاذبة معها كل الآثام .