{ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله}
/م107
إن أولئك الخوانين الأثيمين لا تنالهم محبة الله تعالى ، ولا رحمة ولا مغفرته ، ومن شأنهم أن يكونوا بعداء عن الناس غير ملتقين بهم ، فهم دائما يستخفون من الناس ليدبروا ما يدبرون ، ولأنهم في جفوة مستمرة ولا يحبون الناس ولا يألفونهم ولا يحبون لقاءهم وإذا لقوهم أظهروا غير ما يكتمون ، وأبدوا غير ما يخفون . فالخائن لمجتمعه وأمته يتسم بسمة تجمع عيوبا ثلاثة:هذه السمة هي الاستخفاء ، وهذه العيوب هي الجفوة التي تحمله على ألا يظهر ، وكتمانه أمره حتى لا يكشف ، وتدبيره السوء في استخفائه ! والباعث على ذلك كله الأنانية الظالمة والأثرة القاطعة .
وإنهم إذ يستخفون من الناس لا يشعرون برقابة الله على أعمالهم ، لأن ذلك الشعور ينبعث من ضمير حي قوي موجه للنفس ، والوجدان الديني القوي لا يكون في قلب جاف قاس ، قد ترك الناس ولم يألفهم ، وهذا معنى قوله تعالى:{ ولا يستخفون من الله} فهو مطلع عليهم وإن كانوا لا يشعرون وعليم بأمرهم ، وإن كانوا يستخفون من الناس ويبتعدون عنهم .
والاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء والابتعاد وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء ، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجعلت قدرته:
{ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم ، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم ، اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم ، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضى الله عنها . فالتبييت تدبير الأمر في البيات ، أي الليل ، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس ، ويقول الزمخشري في معنى النص الكريم:"يدبرون ويزورون وأصله أن يكون بالليل ما لا يرضى من القول . . . فإن قلت:كيف سمي التدبير قولا ، وإنما هو معنى في النفس ؟ قلت:لما حدث بذلك نفسه سمي قولا على المجاز".
فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا ، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم ، ويزينون به مظهرهم ، أم ترتيب عمل يخفونه ، ويقومون به ، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبر بليل وتنفذ بليل حتى تظهر آثارها في الجماعة ، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط ، فقال:"ما لا يرضى من القول"، فلماذا ذكر القول وحده ؟ لقد وجه الزمخشري سؤالا قريبا من هذا ، وأجاب عنه ونحن نقول:إنه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل ، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليم اللسان منافق القلب هو أخوف من يخافه على أمته{[797]} ، فعناية المنافق بالقول الذي يستر به عمله هي الجزء الأكبر من تدبيره وإن عمل الليل سهل ، ولكن إخفاؤه بزخرف القول صعب عند ظهور آثاره . وفوق ذلك فإن القول إذا كان لا رضى ، فالعمل أبعد عن الرضا .
وقد عبر سبحانه عن فعلهم وقولهم بأنه لا يرضاه ، للإشارة إلى مقته لهم وحسابهم عليه . وإذا كان الله تعالى عليما بما لا يرضى من القول علم من يصاحبهم عند التدبير والتبييت ، فهو بعملهم عليم أيضا وهو أيضا لا يرضى عنه ، ولذا قال سبحانه:
{ وكان الله بما يعملون محيطا} فإذا كان الله تعالى مصاحبهم في قولهم الذي لا يرضيه ، فهو محيط دائم بكل عملهم إحاطة الدائرة بقطرها ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة منه . والتعبير عن علم الله تعالى لأعمالهم بالإحاطة ، فيه إشارة إلى أمور ثلاثة:أولها - أن علمه كامل لا ينقصه شيء فهو علم إحاطة واستغراق . وثانيها - أن الله معاقب بقدر ما ارتكبوا . وثالثها - أن الله واضع أعمالهم في دائرة ، فلا يمكن أن يصل إلى أهل الحق أذاهم ، لأن الله محيط وبما يعملون:{ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة}