{ أينما تكونوا يُدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}
/م77
البروج جمع برج ، وهو يطلق على الحصن المنيع ، ويطلق على القصر العالي الذي لا يصل إليه أحد ، ويبنى للملوك والكبراء لكيلا تصل إليهم الرعايا . مشيدة:أحكم بناؤها ، وارتفعت ، أو بنيت بالشيد ، وهو الملاط القوي الذي تربط به اللبنات بعضها ببعض . ولقد قال طرفة بن العبد:
كأنها برج روميٍّ تكنَّفهابان بشيد وآجرّ وأحجار
ومعنى النص:إن كنتم تريدون بقعودكم عن الجهاد وطلب إرجائه أنم ترجئوا الموت أو تطيلوا الحياة ، فقد أخطأتم ، فإنه حيثما كنتم يدركك الموت ولو كنتم في أقوى الحصون ، وأمنعها ، واحكمها بناء .
وفي التعبير بكلمة "يدرككم"إشارة إلى أن الموت كأنه يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان ، وفي أي وقت كان ، فهو طالب لا بد أن يدرك ولا بد أن يصل ، لأنه حقيقة محتومة فإن فررتم منه فإنه ملاقيكم ، فلا تفروا منه واطلبوا الحق ولو أدى إليه ، وما أحسن ما قاله زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنه وإن يَرْقَ أسباب السماء بسلَّم
وإن هؤلاء الذين ضعفت نفوسهم قد يدفعهم اضطرابهم إلى أن تسيطر عليهم الأوهام ، فمنهم من يقول كلاما يثير الظنون ويسكت عنه الباقون منهم فكأنهم قالوه ، ولذا حكى- سبحانه- القول عن هذا الفريق فقال:
{ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} أي إن تصبهم حال حسنة تحسن عندهم ، من رخاء أو خصب أو ظفر أو غنيمة أو سعة في الرزق ،:هذه الحال من عند الله تعالى ، فإن كان النصر قالوا:من عند الله . وإن يصبهم أمر يسيئهم ، كالهزيمة ، قالوا:ذلك من محمد ، كأنهم ينسبونه إلى سوء تدبيره -عليه الصلاة والسلام- ، أو يتشاءمون به ، ويهبطون بذلك هبوطا شديدا فالحسنة ما يحسن عندهم ، والسيئة ما يسوؤهم . وذلك التفكير الذين يفكرونه ناشئ من ضعفهم النفسي ، وضعفهم الإيماني ، وسوء ظنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك شأن أهل النفاق ومن يستمعون إليهم من ضعفاء أهل الإسلام:
{ قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} أي إذا كنتم تنظرون إلى ما قدره الله تعالى في علمه المكنون ، وما يوفق إليه عباده ، وما يمدهم به من عون ، فإن كل شيء من عند الله ، فالشدة والرخاء من عند الله ، والغنيمة والهزيمة بتقدير الله عند اتخاذ الأسباب ، فلا ينصر الله متخاذلا ، ولا يخذل من يريد ما عند الله ، ويتجه إلى الجهاد مستعدا بقلبه وعدته وتنظيمه ، وبهذا يرد عليهم ما توهموه ، أو قالوه .
وقد بين سبحانه أن كلام هؤلاء كلام من لا يفقه الأمور على وجهها ، ولا يدرك معاني الأقوال والأفعال . ولذا قال سبحانه:{ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}والمعنى:أن الأمر ثبت لهؤلاء الذين لم يدركوا الأمور حتى كادوا لا يدركون إدراكا حقيقيا أي حديث يتحدثون به ، أو أي حديث يلقى إليهم ، فلا يعلمون أن الله هو القابض الباسط القادر على كل شيء ! . وإنهم لو فهموا ما يتلى عليهم من كتاب الله والحكمة لاهتدوا ، وهذا الاستفهام توبيخ لهم وبيان لوصفهم الحقيقي ، وهو أنهم لا يكادون يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون ، اللهم اهدنا إلى الطيب من القول ، واهدنا إلى الصراط الحميد .