( ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) .
الإشارة في ذلك الى النظام كله الذي نظمه القرآن الكريم ، والنسق الحكيم من الشهادة التي تقوم بها الوصيان تكون ابتداء من أهل التقوى ويعتمد على تقواهم وعدالتهم فان أمسكا بعد الصلاة وأخذت عليهما الأيمان المغلظة ويتعرف الأمر من ورائهما ولا يترك من غير تحريات كاشفة ، فإن عثر على أن الشهادة فيها إثم أو غير حق استشهد غيرهما من الذين ينقص حقهم بشهادتهما واختير أولى الناس من المستحقين بالقول ذلك النظام كله أقرب إلى أن يؤدي الشاهد الشهادة على وجهها إما لأنه يريد الحق لذات الحق أو لأنه يخاف أن الأيمان الشاهدة الجارية على لسان غيره بعد يمينه تعلن كذبه على الأشهاد وخيانته بين الجموع والآحاد فمعنى ترد أي تترك أيمانهم وتطرح ويعاد القول إلى غيرهم بعد تكذيبهم .
والنص يومئ إلى أنه إذا عثر على كذب بعد شهادة الأقربين ترد الشهادة على من يليهم حتى لا يضيع حق قط .
ولقد يروي الرواة قصة في هذا الموضوع ويذكرونها على أنها سبب النزول وانا نذكرها لأنها موضحة للوقائع جاء في تفسير ابن كثير ( عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية:( يا أيها الذين آمنواشهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) قال:برئ الناس منها غيري وغير عدى ابن بدار وكانا نصرانيين يختلفان على الشام قبل الإسلام ( أي إسلامهما ) فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل ابن مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم:فلما أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه أنا وعدى فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إلى أهله ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ، ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره قال تميم:فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا عليه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل المدينة فنزلت:( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) .
إلى قوله ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) فقام عمرو ابن العاص ، ورجل آخر منهم فحلفا ، نزعت خمسمائة من عدى ابن بداء ){[997]} وهكذا . . .وقد ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي بقوله تعالت كلماته .
( واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي الدقيق بأمرين وذكر أمر كلي أما الأمر الأول فهو الأمر بالتقوى بأن يملأوا قلوبهم بخشية الله تعالى ومهابته واتقاء عصيانه وجعل وقاية بينهم وبين عذابه وذلك أمر لازم لكل مؤمن وخصوصا لمن يودعون أسرار الناس ، الذين لا يستطيعون دفع الكذب والباطل عنهم .
والأمر الثاني ، هو ما قرره بقوله سبحانه:( واسمعوا ) أي اسمعوا قول الحق وعوه ، واعلموا به ولا تيئسوا ، ولا يأخذكم السام عن أن تسمعوا كل قول حتى تصلوا إلى الحق الذي تبتغوه .
وأما الأمر الكلي فهو أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الفاسقين ، ومعنى عدم هدايتهم أنهم بسبب ما اكتسبوا من سيئات الفسق وما أحاطت به خطيئاتهم أصبح الحق لا يدخل إلى قلوبهم فلا يهتدون لأن الفسق صار شأنا شئونهم ولا يمكن أن تلتقي الهداية مع الفسق في قلب من فسق عن أمر ربه .
اللهم جنبنا الباطل وأهله ، إنك سميع مجيب .