( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ) أي لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بأن طردهم من رحمته ، وجعلهم مظهرا للحسد والبغض في هذه الأرض ، وكأن الحق على غيرهم من الناس في جبلتهم الأولين ، وقد مسخوا أنفسهم وشوهوا أخلاقهم فلعنهم الله تعالى ، وهنا مسائل لا بد من الإشارة إليها:
الأولى ، لماذا بنى ( لعن ) الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل ؟ والجواب ذلك أن الفاعل معلوم ، وهو الله تعالى لأن داود وعيسى نبيان يتكلمان عن الله تعالى ، فما ينطقان عن الهوى ، وهما لا يملكان الطرد من رحمة الله تعالى ، وأن في البناء للمجهول فوق ذلك إشعارا بأن اللعن يستحقونه من سوء أعمالهم ، ثم إن البناء للمجهول فيه إشارة إلى عموم اللاعنين مع الله سبحانه وتعالى إذ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا .
الثانية:أن اللعنة منصبة على الذين كفروا وليست على عمومهم وذلك من إنصاف الله في أحكامه ،وإن كان الذين آمنوا بنسبتهم للذين كفروا عددا قليلا كما قال تعالى:(. . .منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون66 ) ( المائدة ) . وأنه واضح أن من أسباب لعنتهم كفرهم مع عصيانهم لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة من اسباب الحكم .
والثالثة:أن الله ذكر أن اللعن جاءهم على لسان داود وعيسى ابن مريم وهما نبيان جاءا بعد موسى عليه السلام ، واحدهما كان نبيا مجاهدا محاربا ، قادهم على مواطن الظفر ، ومع ذلك لعنهم الله على لسانه ، والثاني كان رسولا مسالما ومع ذلك لعنهم بأمر الله تعالى ، فهم ملعونون في الحرب والسلم على سواء .
ولقد جاء في بعض كتب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن أهل إيليا عندما كان اليهود بها ودنسوها لما اعتدوا يوم السبت ، قال داود عليه السلام:اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين ، ولما طلبوا المائدة ، وقال الله تعالى ك (. . .إني منزلها عليكم . . .115 ) ( المائدة ) قال عيسى عليه السلام ، اللهم عذب من كذب بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين .
وإن الذي يبدو لنا أن هذا بيان لما نزل بهم من لعن مستمر جاء هذا اللعن على لسان داود ومن جاء بعد حتى كان عيسى فكان لعن الكافرين عاما ، يستوي في ذلك من كان يجاهد بالسيف والحرب ، ومن كان يجاهد بالسلم ، فلعنهم الله إلا أن يتوبوا .
( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) هذا بيان لسبب اللعن والطرد من رحمة الله تعالى يوم القيامة ، فلم يكن لعنهم لذواتهم ، وغنما لأعمالهم وإيذائهم ،فجملة أعمال أولئك كفروا من أهل الكتاب عصيان الله سبحانه وتعالى ، أمرهم بعبادة الله وحده ، فكان منهم إشراك وأمرهم بالإيمان باليوم الآخر فكان منهم من أنكره وأمرهم بإطاعة النبيين ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون وأمرهم بالا يعتدوا يوم السبت فاعتدوا وأمرهم بالا يأكلوا الربا فأكلوه ، وهكذا كانت أعمالهم نكرا وعصيانا ، وكان أشد عصيانهم أن اعتدوا على خلق الله تعالى ، فكانوا حاقدين على كل مخلوق سواهم ، وبالغوا في إعنات الناس أن اشتدوا بمعونة غيرهم ، وبالغوا في الإفساد وإيقاد الفتن إن ضعفوا عن المقاومة الظاهرة .
والعصيان لله وأخصه الاعتداء هو سبب الطرد من رحمة الله . وعموم العصيان يدخل فيه كل سبب الطرد واللعن فلا يوجد سبب غيرهما .
وقد عبر عن العصيان بالماضي للإشارة إلى قرار العصيان في طبائعهم ونفوسهم وثباته ، فيها وعبر عن الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر قائم ، وبذلك كان الجمع بين الماضي والمضارع للدلالة على الثبات والقرار والاستمرار ، ونسب العصيان إليهم جميعا ، والاعتداء إليهم جميعا ، لأنه كان من بعضهم واقره سائرهم أو سكت عنه باقيهم ، فكان منهم وقوعا ورضا ولذا قال سبحانه:( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )