{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
جمع الله تعالى في هذه الآية الذين كانوا دعامة الإسلام ، وعليهم هدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قام بنيانه ، وشيدت أركانه ، وهم المهاجرون والأنصار ، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت وتلقت الصدمة الأولى من المشركين ، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم:( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) ( 1 ){[1194]} ، فهم الذين تلقوها من عتاة المشركين الذين قابلوا أهل الحق بالأذى من أمثال أبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وغيرهم ، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا بإيمانهم ، ومنهم من هاجر إليها مرتين ، وهم الذين لاقوا العنت ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، ومنهم من اضطروه تحت العذاب أن ينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومنهم من مات بعض أسرته تحت حر العذاب .
ثم في آخر الأمر هاجروا إلى المدينة ، فاستقبلهم إخوانهم بالترحاب وآووا ونصروا .
والأنصار هم الذين آووا ونصروا ، وأعزوا كلمة التوحيد وأغلوها وأعلوها ، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداء ، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم ، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة ، وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته ، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ديارهم وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداء بالصبر والمصابرة ، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة ، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها ؛ ولذا قال تعالى:{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} .
الإشارة إلى السابقين ، والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه ، وجعلها مناط الحكم ، أي أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان ، وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقا ، أي إيمانا ثابتا صادقا حقا تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم .
وفي الكلام قصر ، أي من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقا ، أي لا يؤمنون حقا غيرهم ، ومن هم على صفاتهم ، وفيهم قوة الإيمان مثلهم ، أي ذلك هو الإيمان حقا وصدقا{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( 26 )} ( المطففين ) .
ولقد كرر الله تعالى الثناء على المهاجرين والأنصار في كثير من محكم آياته ، من ذلك قوله تعالى:{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . . . ( 100 )} ( التوبة ) .
ويقول تعالى:{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة . . . . . . ( 117 )} ( التوبة ) .
وقال تعالى:في توزيع ما أفاء الله على رسوله:{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( 8 ) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( 9 )} ( الحشر ) .
وهكذا ترى قوة الإيمان ، والجهاد ونصرة الرسول ، والإيثار فكانوا بذلك المؤمنين حقا وصدقا ، وقد ذكر الله تعالى ما كتب من خير في الدنيا والآخرة ، بعد أن ذكر أنهم المؤمنون حقا ، قال:{ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، وهذا يتضمن جزائين:
أولهما – المغفرة السابقة وراءها الرحمة والنعيم المقيم .
ثانيهما – رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها والله واسع عليم .