قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} .
قال ابن عباس ،والحسن ،ومجاهد ،وعامر الشعبي ،وأكثر المفسرين: إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس ،وهم الكفار ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته إلا وهم مشركون به غيره في عبادته .
فالمراد بإيمانهم اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم ومدبر شؤونهم ،والمراد بشركهم عبادتهم غيره معه ،والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً ،كقوله:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [ يونس:31] ،وكقوله:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [ الزخرف: 87] ،وقوله:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[ الزخرف: 9] ،وقوله:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [ العنكبوت:61] ،وقوله:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[ العنكبوت:63] ،وقوله:{قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [ المؤمنون: 84-89] إلى غير ذلك من الآيات .
ومع هذا فإنهم قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امشوُا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يُراد} [ ص: 5-6] .
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة ،أي عبادة الله وحده لا شريك له ،ويدل لذلك قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} .
وفي هذه الآية الكريمة إشكال: وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها وعليه ؛فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو يؤمن مقيد بها ،فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين ،وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة .
قال مقيدهعفا الله عنه:
لم أر من شفي الغليل في هذا الإشكال ،والذي يظهر ليوالله تعالى أعلمأن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي ؛لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان ألبتة شرعاً ؛أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق ،فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله ،ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً .
وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به ،وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى:{قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ في قُلُوبِكُمْ} [ الحجرات: 14] فهو الإسلام اللغوي ؛لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه ،والعلم عند الله تعالى .
وقال بعض العلماء: «نزلت آية{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} في قول الكفار في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك » وهو راجع إلى ما ذكرنا .
قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ} [ 111] .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية أن في أخبار المرسلين مع أممهم ،وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين عبرة لأولي الألباب ،أي عظة لأهل العقول .
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ،كقوله في قوم لوط:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [ الصافات: 138] ،كما تقدمت الإشارة إليه مراراً ،والعلم عند الله تعالى .