/ت103
وقوله في هذه الآية الكريمة:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [ 104] أي بطل واضمحل .وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات:
الأولالضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل ؛كالذهاب عن الإسلام إلى الكفر .وهذا أكثر استعمالاته في القرآن ؛ومنه قوله تعالى:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين 7} ،وقوله:{وَلاَ تَتَّبِعُواْ أهواء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سواء السَّبِيلِ 77} .
الثانيالضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال ،ومنه قول العرب: ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه .ومنه بهذا المعنى قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 75} أي غاب واضمحل ،وقوله هنا:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي بطل واضمحل ،وقول الشاعر:
ألم تسأل فتخبرك الديار *** عن الحي المضلل أين ساروا
أي عن الحي الذي غاب واضمحل ،ومن هنا سمي الدفن إضلالاً ؛لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض ،فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام .ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغه ذبيان:
فآب مضلوه بعين جلية *** وغودو بالجولان حزم ونائل
فقوله «مضلوه » يعني دافنيه في قبره .ومن هذا المعنى قوله تعالى:{وَقَالُواْ أئذا ضَلَلْنَا في الأرض أَإنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآية .فمعنى{ضَلَلْنَا في الأرض} أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها لغابت واستهلكت فيها .
الثالثالضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع ،ومنه بهذا المعنى قوله تعالى:{وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدَى 7} أي ذاهباً عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي .وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب:{قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لفي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ 95} أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف ،ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك ،وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات وقوله تعالى:{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} أي نذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه ،بدليل قوله{فَتُذَكّرَ أَحَدُهُمَا الأخرى} ،وقوله تعالى:{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ ربّي في كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ ربّي وَلاَ يَنسَى 52} ومن هذا المعنى قول الشاعر:
وتظن سلمى أنثى أبغى بها *** بدلاً أراها في الضلال تهيم
فقوله «أراها في الضلال » أي الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغى بها بدلاً ،والواقع بخلاف ذلك .
وقوله في هذه الآية:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ} أي يظنون .وقرأه بعض السبعة بكسر السين ،وبعضهم بفتحها كما قدمنا مراراً في جميع القرآن .ومفعولاً «حسب » هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما «أن » والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم .وقوله «صنعاً » أي عملاً وبين قوله «يحسبون ،ويحسنون » الجناس المسمى عند أهل البديع «تجنيس التصحيف » وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين ،كقول البحتري:
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى *** ليعجز والمعتز بالله طالبه
فبين «المغتر والمعتز » الجناس المذكور .