وقوله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} .
الضمير في قوله{عَلَّمْنَاهُ} راجع إلى داود ،والمراد بصيغة اللبوس: صنعة الدروع ونسجها ؛والدليل على أن المراد باللبوس في الآية الدروع: أنه أتبعه بقوله{لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} أي لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض ،لأن الدرع تقيه ضرر الضرب بالسيف ،والرمي بالرمح والسهم ،كما هو معروف .وقد أوضح هذا المعنى بقوله:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد 10 َأَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ في السَّرْدِ} فقوله{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي أن اصنع دروعاً سابغات من الحديد الذي ألناه لك .والسرد: نسج الدرع .ويقال فيه الزرد ،ومن الأول قول أبي ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع
ومن الثاني قول الآخر:
نقريهم لهذميات نقد بها *** ما كان خاط عليهم كل زراد
ومراده بالزراد: ناسج الدرع .وقوله{وَقَدّرْ في السَّرْدِ} أي اجعل الحلق والمسامير في نسجك الدرع بأقدار متناسبة ؛فلا تجعل المسمار دقيقاً لئلا ينكسر ،ولا يشد بعض الحلق ببعض ،ولا تجعله غليظاً غلظاً زائداً فيفصم الحلقة .وإذا عرفت أن اللبوس في الآية الدروع فاعلم أن العرب تطلق اللبوس على الدروع كما في الآية ؛ومنه قول الشاعر:
عليها أسود ضاويات لبوسهم *** سوابغ بيض لا يخرقها النبل
فقوله «سوابغ » أي دروع سوابغ ،وقول كعب بن زهير:
شم العرانيين أبطال لبوسهم *** من نسج داود في الهيجا سرابيل
ومراده باللبوس التي عبر عنها بالسرابيل: الدروع .والعرب تطلق اللبوس أيضاً على جميع السلاح درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً .ومن إطلاقه على الرمح قول أبي كبير الهذلي يصف رمحاً:
ومعي لبوس للبئيس كأنه *** روق بجبهة نعاج مجفل
وتطلق اللبوس أيضاً على كل ما يلبس ؛ومنه قول بيهس:
البس كل حالة لبوسها *** إما نعيمها وإما بوسها
وما ذكره هنا من الامتنان على الخلق بتعليمه صنعة الدروع ليقيهم بها من بأس السلاح تقديم إيضاحه في سورة «النحل » في الكلام على قوله تعالى{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} الآية .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} الظاهر فيه أن صيغة الاستفهام هنا يراد بها الأمر ،ومن إطلاق الاستفهام بمعنى الأمر في القرآن قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي انتهوا .ولذا قال عمر رضي الله عنه: انهيتنا يا رب .وقوله تعالى:{وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ} الآية ،أي اسلموا .وقد تقرر في فن المعاني: أن في المعاني التي تؤدي بصيغة الاستفهام: الأمر ،كما ذكرنا .
وقوله{شَاكِرُونَ} شكر العبد لربه: هو أن يستعين بنعمه على طاعته ،وشكر الرب لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل .ومادة «شكر » لا تتعدى غالباً إلا باللام ،وتعديتها بنفسها دون اللام قليلة ،ومنه قول أبي نخيلة:
شكرتك إن الشكر حبل من التقى *** وما كل من أوليته نعمة يقضى
وفي قوله{لِتُحْصِنَكُمْ} ثلاث قراءات سبعية: قرأه عامة السبعة ما عدا ابن عامر وعاصماً{لِتُحْصِنَكُمْ} بالياء المثناة التحتية ،وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل عائد إلى داود ،أبو إلى اللبوس ،لأن تذكيرها باعتبار معنى ما يلبس من الدروع جائز .وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم{لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاء المثناة الفوقية ،وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل راجع بالى اللبوس وهي مؤنثة ،أو إلى الصنعة المذكورة في قوله:{صَنْعَةَ لَبُوسٍ} ،وقرأه شعبة عن عاصم{لِنَحْصِنَكُمْ} بالنون الدالة على العظمة وعلى هذه القراءة فالأمر واضح .