قوله تعالى:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83} .
الظاهر أن قوله{وَأَيُّوبَ} منصوب باذكر مقدراً ،ويدل على ذلك قوله تعالى في «ص »{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ 41} .
وقد أمر جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يذكر أيوب حين نادى ربه قائلاً:{أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83} وأن ربه استجاب له فكشف عنه جميع ما به من الضر ،وأنه آتاه أهله ،وآتاه مثلهم معهم رحمة منه جل وعلا به ،وتذكيراً للعابدين أي الذين يعبدون الله لأنهم هم المنتفعون بالذكرى .
وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة «ص » في قوله:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ 41} إلى قوله{لأوْلِى الألْبَابِ 43} والضر الذي مس أيوب ،ونادى ربه ليكشفه عنه كان بلاء أصابه في بدنه وأهله وماله .ولما أراد الله إذهاب الضر عنه أمره أن يركض برجله ففعل ،فنبعت له عين ماء فاغتسل منها فزال كل ما بظاهر بدنه من الضر ،وشرب منها فزال كل ما بباطنه ؛كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ 42} .
وما ذكره في «الأنبياء »: من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لمن يعبدهبينه في «ص » في قوله ،{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأوْلِى الألْبَابِ 43} ،وقوله في «الأنبياء » ،{وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ 84} مع قوله في «ص » ،{وَذِكْرَى لأٌوْلِى الألْبَابِ 43} فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ،هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه .وهذا يؤيد قول من قال من أهل العلم ،إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناسأن تلك الوصية تصرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى ؛لأنهم هم أولو الألباب ؛أي العقول الصحيحة السالمة من الاختلال .
تنبيه
في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف ،وهو أن يقال: إن قول أيوب المذكور في «الأنبياء » في قوله ،{إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الضُّرُّ} وفي «ص » في قوله ،{إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ 41} يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه .مع أن قوله تعالى ،{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ 44} يدل على كمال صبره ؟
والجوابأن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه ،لا شكوى ولا جزع .
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ،ولم يكن قوله{مَسَّنِي الضُّرُّ} جزعاً ؛لأن الله تعالى قال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} بل كان ذلك دعاء منه .والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ،والدعاء لا ينافي الرضا .قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلساً غاصاً بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ؛فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} فقلت: ليس هذا شكاية ،وإنما كان دعاء .بيانه{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء .فاستحسنوه وارتضوه ؛وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوالانتهى منه .
ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة «الأنبياء » من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله:{أَنِّى مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83} وذكره في سورة «ص » وأسند ذلك الشيطان في قوله:{أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ 41} والنصب على جميع القراءات معناه: التعب والمشقة ،والعذاب: الألم .وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة «ص » هذه إشكال قوي معروف ؛لأن الله ذكر في آيات من كتابه: أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام ؛كقوله:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ 99إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ 100} ،وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} الآية ،وقوله تعالى مقرراً له:{وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي} ،وقوله تعالى:{إِنَّ عبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ 42} .
وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ؛منها ما ذكره الزمخشري قال:
فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان ،ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي إن إتعابهم وتعذيبهم وطره ،ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه ،وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟
قلت: لما كانت وسوسته إليه ،وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه ،وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ،مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو .وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ،ويغريه على الكراهة والجزع ،فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ،أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل .
وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ؛فارتد أحدهم فسأل عنه ،فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين .وذكر في سبب بلائه: أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه .وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه .وقيل .أعجب بكثرة مالهانتهى منه .
ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين: أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب ؛فأهلك الشيطان ماله وولده ،ثم سلطه على بدنه ابتلاء له فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها ،فصار في جده ثآليل ،فحكها بأظافره حتى دميت ،ثم بالفخار حتى تساقط لحمه ،وعصم الله قلبه ولسانه .( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده ،وماله وأهله ممكن ،وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ؛كمداهنة الملك المذكور ،وعدم إغاثة الملهوف ،إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون .وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه ،وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلاً .
وغاية ما دل عليه القرآن: أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ،وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر ،ووهبه أهله ومثلهم معهم ،وأن أيوب نسب ذلك في «ص » إلى الشيطان .ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ؛ابتلاء ليظهر صبره الجميل ،وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة ،ويرجع له كل ما أصيب فيه ،والعلم عند الله تعالى وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب ،لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض ،وذلك يقع للأنبياء ،فإنهم يصيبهم المرض ،وموت الأهل ،وهلاك المال لأسباب متنوعة .ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة «طه » وقول الله لنبيه أيوب في سورة «ص »:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} الآية ،قال المفسرون فيه: إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط ،فأمره الله أن يأخذ ضغثاً فيضربها به ليخرج من يمينه ،والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك .والمعنى: أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضربها بها ضربة واحدة ،فيخرج بذلك من يمينه .وقد قدمنا في سورة «الكهف » الاستدلال بآية{وَلاَ تَحْنَثْ} على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب قل إن شاء الله ؛ليكون ذلك استثناء في يمينك .